إخوتي وأخواتي الأعزّاء،
القديسة جيرترود الكبيرة، التي أودّ أن أتكلّم عنهااليوم، تقودنا هي أيضًا هذا الاسبوع إلى دير هيلفتا، حيثُ رأى النور بعضروائع الأدب الدينيّ النسائيّ اللاتينيّ-الألمانيّ.
القديسة جيرترود الكبيرة، التي أودّ أن أتكلّم عنهااليوم، تقودنا هي أيضًا هذا الاسبوع إلى دير هيلفتا، حيثُ رأى النور بعضروائع الأدب الدينيّ النسائيّ اللاتينيّ-الألمانيّ.
تنتمي جيرترود إلى هذاالعالم، وهي واحدة من المتصوّفات الأكثر شهرة، والمرأة الوحيدة في ألمانياالتي تحمل لقب "الكبيرة"، بفضل قامتها الثقافيّة والإنجيليّة: فقد أثّرتبِحياتها وأفكارها بطريقة فريدة على الروحانيّة المسيحيّة. إنّها امرأةرائعة، ذات مواهب طبيعيّة مُميّزة وهبات غير عاديّة من النعمة، والتواضعالعميق والحماس المتّقد من أجل خلاص القريب، بالتواصل الحميم مع الله فيالتأمّل والاستعداد لمساعدة المحتاجين.
وفي هيلفتا كانت تُقارن نفسها، إذا جاز التعبير،بانتظام مع معلّمتها ماتيلدا من هاكيبورن، التي تحدّثتُ عنها في المقابلةالعامّة يوم الاربعاء الماضي؛ وتقيم علاقة مع ماتيلدا من ماغديبورغ، وهيمتصوّفة أخرى من العصور الوسطى؛ نَمَت في ظلّ الرعاية الأموميّة، اللطيفةوالمتطلّبة لرئيسة الدير جيرترود. استخرجت من هؤلاء الأخوات الثلاث كنوزًامن الخبرة والحكمة؛ لتعود فتحلّلها في خلاصة خاصّة بها، فتقطع مسيرتهاالدينيّة بثقة لا حدود لها بالربّ. وهي تعبِّر ليس فقط عن غنى روحانيّةعالمها الرهباني، بل أيضًا وقبل كلّ شيء عن غنى روحانيّة العالم البيبليّوالليتورجيّ وتقاليد الآباء والبينديكتي، وذلك في طابع شخصيّ كبير وفعاليّةكبيرة في التواصل.
ولدت في 6 كانون الثاني/يناير 1256، في عيد الدنح،ولكنّنا لا نعرف شيئًا عن والدَيها ولا عن مسقط رأسها. تكتب جيرترود أنّالربّ نفسه كشف لها عن معنى استئصالها الأوّل: “لقد اخترتها لإقامتي لأنّنيرضيت بأن يكون كلُّ ما هو محبوب فيها من عملي [...]. ولأجل هذا بالذاتأبعدتُّها عن كلّ أقاربها حتّى لا يحبّها أحد بدافع قرابة الدم، وأكونَ أناسبب المودّة الوحيد الذي يكنّونه لها” (الرؤى، الكتاب الأوّل، 16 ، 1994سيينا، ص 76-77).
دخلت الدير في سنّ الخامسة، عام 1261 ، للتنشئة والدراسة، كما كانت العادةفي ذلك العصر. قضت هناك كلّ حياتها، التي تشير هي بنفسها إلى محطّاتهاالرئيسيّة. فتذكر في مذكّراتها أنّ الربّ قد تداركها بصبر متساهِل ورحمةلامتناهية، ناسيةً سنوات الطفولة والمراهقة والشباب التي قضتها – كما تكتب - “في عمى عقل لدرجة أنّني كنت قادرة [...] على التفكير والقول والعمل دونأيّ ندم بكلّ ما يطيب لي وحيثما تمكّنت، لو لم تدركني أنت، سواء بالرعبالمتأصّل من الشرّ والميل الفطريّ نحو الخير، أو بالسهر الخارجيّ منالآخرين، لكنت تصرّفت كَوثنيّة [...]، وذلك رغم أنّني أردتُّك منذ الطفولة،أي منذ السنة الخامسة من عمري، وأسكن في معبد الديانة المُبارك كي أتلقّىالتربية بين أصدقائك الأكثر خشوعًا” (المرجع نفسه، الكتاب الثاني، 23 ، ص 140).
كانت جيرترود طالبة غير عاديّة، وتتعلّم كلّ شيء يمكنتعلّمه في الفنون الثلاثة والأربعة (أي الحساب والهندسة والموسيقى والفلك)،وهي تنشئة ذاك الزمان؛ وكانت مفتونة بالمعرفة وتنكبّ على الدراسةالدنيويّة بحماس ومثابرة، محقّقةً نجاحات أكاديميّة تفوق كلّ التوقّعات. وإذا كنّا لا نعرف شيئًا عن أصولها، فهي تقول لنا الكثير عن هواياتها فيشبابها: الأدب والموسيقى والغناء، وكان يجذبها فنّ الرسم الدقيق على عاج أومعدن؛ لها مزاج قويّ وحاسم وفوريّ، ومتحفِّز؛ وغالبًا ما تقول إنّهامُهملة؛ وتعترف بِعيوبها، وتطلب بكلّ تواضع الصفح عنها. وتطلب بتواضعالمشورة والصلاة لِتوبتها. هناك ملامح في مزاجها وعيوب ستلاحقها حتّىالنهاية، لدرجة أدهشت بعض الأشخاص الذين كانوا يتساءلون لِما يفضِّلهاالربّ إلى هذا الحدّ.
وفي هيلفتا كانت تُقارن نفسها، إذا جاز التعبير،بانتظام مع معلّمتها ماتيلدا من هاكيبورن، التي تحدّثتُ عنها في المقابلةالعامّة يوم الاربعاء الماضي؛ وتقيم علاقة مع ماتيلدا من ماغديبورغ، وهيمتصوّفة أخرى من العصور الوسطى؛ نَمَت في ظلّ الرعاية الأموميّة، اللطيفةوالمتطلّبة لرئيسة الدير جيرترود. استخرجت من هؤلاء الأخوات الثلاث كنوزًامن الخبرة والحكمة؛ لتعود فتحلّلها في خلاصة خاصّة بها، فتقطع مسيرتهاالدينيّة بثقة لا حدود لها بالربّ. وهي تعبِّر ليس فقط عن غنى روحانيّةعالمها الرهباني، بل أيضًا وقبل كلّ شيء عن غنى روحانيّة العالم البيبليّوالليتورجيّ وتقاليد الآباء والبينديكتي، وذلك في طابع شخصيّ كبير وفعاليّةكبيرة في التواصل.
ولدت في 6 كانون الثاني/يناير 1256، في عيد الدنح،ولكنّنا لا نعرف شيئًا عن والدَيها ولا عن مسقط رأسها. تكتب جيرترود أنّالربّ نفسه كشف لها عن معنى استئصالها الأوّل: “لقد اخترتها لإقامتي لأنّنيرضيت بأن يكون كلُّ ما هو محبوب فيها من عملي [...]. ولأجل هذا بالذاتأبعدتُّها عن كلّ أقاربها حتّى لا يحبّها أحد بدافع قرابة الدم، وأكونَ أناسبب المودّة الوحيد الذي يكنّونه لها” (الرؤى، الكتاب الأوّل، 16 ، 1994سيينا، ص 76-77).
دخلت الدير في سنّ الخامسة، عام 1261 ، للتنشئة والدراسة، كما كانت العادةفي ذلك العصر. قضت هناك كلّ حياتها، التي تشير هي بنفسها إلى محطّاتهاالرئيسيّة. فتذكر في مذكّراتها أنّ الربّ قد تداركها بصبر متساهِل ورحمةلامتناهية، ناسيةً سنوات الطفولة والمراهقة والشباب التي قضتها – كما تكتب - “في عمى عقل لدرجة أنّني كنت قادرة [...] على التفكير والقول والعمل دونأيّ ندم بكلّ ما يطيب لي وحيثما تمكّنت، لو لم تدركني أنت، سواء بالرعبالمتأصّل من الشرّ والميل الفطريّ نحو الخير، أو بالسهر الخارجيّ منالآخرين، لكنت تصرّفت كَوثنيّة [...]، وذلك رغم أنّني أردتُّك منذ الطفولة،أي منذ السنة الخامسة من عمري، وأسكن في معبد الديانة المُبارك كي أتلقّىالتربية بين أصدقائك الأكثر خشوعًا” (المرجع نفسه، الكتاب الثاني، 23 ، ص 140).
كانت جيرترود طالبة غير عاديّة، وتتعلّم كلّ شيء يمكنتعلّمه في الفنون الثلاثة والأربعة (أي الحساب والهندسة والموسيقى والفلك)،وهي تنشئة ذاك الزمان؛ وكانت مفتونة بالمعرفة وتنكبّ على الدراسةالدنيويّة بحماس ومثابرة، محقّقةً نجاحات أكاديميّة تفوق كلّ التوقّعات. وإذا كنّا لا نعرف شيئًا عن أصولها، فهي تقول لنا الكثير عن هواياتها فيشبابها: الأدب والموسيقى والغناء، وكان يجذبها فنّ الرسم الدقيق على عاج أومعدن؛ لها مزاج قويّ وحاسم وفوريّ، ومتحفِّز؛ وغالبًا ما تقول إنّهامُهملة؛ وتعترف بِعيوبها، وتطلب بكلّ تواضع الصفح عنها. وتطلب بتواضعالمشورة والصلاة لِتوبتها. هناك ملامح في مزاجها وعيوب ستلاحقها حتّىالنهاية، لدرجة أدهشت بعض الأشخاص الذين كانوا يتساءلون لِما يفضِّلهاالربّ إلى هذا الحدّ.
انتقلت من طالبة إلى تكريس ذاتها كليًّا لله في الحياةالرهبانيّة، ولم يحدث أيّ شيء استثنائيّ على مدى عقدين من الزمن: الدراسةوالصلاة هما نشاطاها الرئيسيَّان. تتفوّق بسبب مواهبها بين أخواتها؛ إنّهاثابتة في ترسيخ ثقافتها في مجالات مختلفة. ولكن، خلال زمن المجيء في عام 1280، بدأت تشعر بالاشمئزاز من كلّ هذا، وشعرت ببطلان هذه الأمور وفي27كانون الثاني/يناير 1281، وقبل أيّام قليلة من عيد تنقية العذراء، نحو ساعةصلاة آخر المساء، أضاء الرب ظلماتها الكثيفة. وهدّأ بعذوبة ولطف منالاضطراب الذي كان يكربها، اضطرابٌ تراه جيرترود كهبة من الله “لهدم ذاكالبرج من الغرور والفضول الذي، رغم أنّي أحمل ويا للأسف اسم الراهبةورداءها، رحت أرفع من كبريائي، حيث أعثر على الأقلّ هكذا على الطريق لتُظهرلي خلاصك” (المرجع نفسه، الكتاب الثاني، 1، ص 87). وكان لها رؤيا لِشابّيقودها لِتخطّي الشوك المُتشابك الذي كان يضغط على نفسها، آخذًا بيدها. تتعرّف جيرترود في تلك اليد على “الآثار الثمينة لتلك الجراح التي ألغتجميع محاضر اتّهام أعدائنا” (المرجع نفسه، الكتاب الثاني، 1، ص 89)،وتتعرّف على الذي خلّصنا على الصليب بِدمه، يسوع.
منذ تلك اللحظة تعمّقت حياة الشراكة الحميميّة معالربّ، خصوصًا في الأزمنة الليتورجيّة الأهمّ – زمن المجيء والميلاد، زمنالصوم وعيد الفصح، أعياد العذراء - حتّى عندما كانت مريضة، وغير قادرة علىالتوجّه إلى الجوقة. إنّه نفس “الأساس” الليتورجيّ لِماتيلدا معلّمتها،التي تصفها جيرترود بِصُور ورموز وعبارات أكثر بساطة وعاديّة، وأكثرواقعيّة، بإشارات أكثر مباشرة للكتاب المقدّس وآباء الكنيسة والعالمالبينديكتيّ.
تُشير سيرة حياتها إلى اتّجاهَين يمكن أن نحدِّدهماكَـ “توبة” خاصّة بها: في الدراسات، بالانتقال الجذريّ من الدراساتالإنسانيّة العلمانيّة إلى الدراسات اللاهوتيّة، وفي التمسّك بالقانونالرهبانيّ، بالانتقال من الحياة التي كانت تعتبرها “مُهمِلة” إلى حياةالصلاة العميقة، التصوّفيّة، مع اتّقاد تبشيريّ خارق. وقد دعاها الربّ،الذي اختارها من لدن أمّها، وأشركها منذ طفولتها في وليمة حياة الرهبنة،بِنعمته “من الأشياء الخارجيّة إلى الحياة الداخليّة ومن الأعمال الدنيويّةإلى محبّة الأشياء الروحيّة”. وأدركت جيرترود أنّها كانت بعيدة عنه، “فيمنطقة الاختلاف”، كما تقول مع القدّيس أغسطينوس؛ وأنّها كرّست نفسها بكثيرمن الجشع للدراسات الليبراليّة والحكمة البشريّة، وتجاهلت العِلم الروحيّ،حارمةً نفسها من تذوّق الحكمة الحقيقيّة؛ والآن فهي تُقاد إلى جبل التأمّل،حيث تترك الإنسان القديم لتلبس الإنسان الجديد. “من الإلمام بِقواعد اللغةأصبحت ملّمة باللاهوت، مع القراءة الدؤوبة والمتنبّهة لجميع الكُتُبالمقدّسة التي كان يمكن أن تحصل عليها أو تجلبها بشكلٍ ما، كانت تملأ قلبهابالجمل الأكثر إفادة وعذوبة من الكتاب المقدّس. كان لها استعداد دائم لقولبعض الكلمات المستوحاة والمفيدة أخلاقيًّا لإرضاء مَن كان يأتيلاستشارتها، ومعها نصوص من الكتب المقدّسة الأكثر ملاءمة لدحض كلّ رأي خاطئوكمّ أفواه مُعارضيها” (المرجع نفسه، الكتاب الأوّل، 1، ص 25).
حوّلت جيرترود كلّ هذا إلى مهمّة رسوليّة: وانكبّت علىكتابة ونشر حقيقة الإيمان بِوضوح وبساطة، وبِنعمة وقدرة على الإقناع،خادمةً بمحبّة وأمانة الكنيسة، حتّى أصبحت مفيدة ومرحّب بها لدى علماءالدين والأناس الورِعين. لقد بقي لنا القليل من هذه الأعمال المكثّفة، وذلكأيضًا بسبب الأحداث التي أدّت إلى تدمير دير هيلفتا. فعدا عن “فارسالمحبّة الالهيّة” أو “الإيحاءات”، بقيت لنا “الرياضات الروحيّة”، وهيجوهرة نادرة في الأدب التصوّفي الروحيّ.
أمّا في مُراعاة القوانين الدينيّة فإنّ قدّيستنا هي “عَمود صلب [...]، تُدافِع بحزم عن العدالة والحقيقة” (المرجع نفسه، الكتابالأوّل، 1، ص 26)، كما تقول كاتبة سيرة حياتها. وتثير في الآخرين حماسةًكبيرة بكلامها ومِثالها. وتُضيف إلى الصلوات والتكفيرات عن الذنوب فيالقانون الرهبانيّ أشياء أُخرى بِتفانٍ وتسليم واثق بالله، فَتثير في منيلتقي بها الوعي بأنّهم في حضور الربّ. وبالواقع فقد جعلها الله نفسه تفهمأنّه دعاها لتكون أداة نعمته. تشعر جيرترود تجاه هذا الكنز الإلهيّ الثمينبأنّها غير مستحقّة، وتعترف بأنّها لم تحافظ عليه وتُعطيه حقّ قدره. فتهتف: “واحسرتاه! لو أنّك أعطيتني كَذِكرٍ منك، من غير استحقاق منّي، حتّى خيطًاواحدًا من حشو الكراسيّ والمقاعد، لكنت نظرت إليه بِمزيد من الاحتراموالإجلال من هذه العطايا خاصّتك” (المرجع نفسه، الكتاب الثاني، 5، ص 100). ولكنها، مع الاعتراف بِفقرها وعدم استحقاقها، تمسّكت بإرادة الله، كماتؤكِّد: “لأنّي قد استفدتُ قليلاً جدًّا من نِعمك حتّى إنّي لا أستطيع أنأصدّق أنها قد مُنِحت لي وحدي، فحكمتك الأبديّة غير قادرة على الشعوربالإحباط من قِبَل أحد. فافعل إذن، يا مُعطيَ كلّ خير، يا مَن منحتنيمجانًّا عطايا غير مُلزمة، أن يتأثّر بقراءة هذا المخطوط قلبٌ واحد علىالأقلّ من أصدقائك للتفكير والحماس للنفوس والذي قادك لترك جوهرة لا تُقدّرقيمتها بثمن لفترة طويلة وسط وحول قلبي البغيض” (المرجع نفسه، الكتابالثاني، 5، ص 100 وما يليها).
كانت هناك، على وجه الخصوص، عطيّتانعزيزتان أكثر منأيّ شيء آخر عليها، كما تكتب جيرترود بنفسها: “سِمات جروحاتك الخلاصيّةالتي طبعتَها فيّ، كالجواهر الثمينة، في القلب، وجرح المحبّة العميقوالمفيد الذي طبعته به. لقد غمرتني بعطاياك هذه بكثير من الغبطة، ولو كنتسأعيش ألف سنة دون أيّ عزاء داخليّ أو خارجيّ، لكان كفاني ذِكرُها لأستريحوأستنير، وأمتلئ بالامتنان. كنت تودّ بعدُ إدخالي في حميميّة صداقتك التيلا تقدّر بثمن، فاتحًا لي بطرق مختلفة ذاك الحرم الداخلي النبيل لألوهيّتكالذي هو قلبك الإلهيّ [...]. وفوق كلّ تراكم الفوائد هذا زدتَ لي منحيكمحاميةٍ كليّة القداسة مريم العذراء، أمّك، وأوصيت بي إلى عاطفتها كمايوصي أكثر الأزواج إخلاصًا بزوجته الحبيبة إلى والدته” (المرجع نفسه،الكتاب الثاني، 23، ص 145).
وأنهت حياتها الأرضيّة في 17 تشرين الثاني/نوفمبر منعام 1301 أو 1302، متوجّهةً صوب التواصل اللامتناهي، وهي في السادسةوالأربعين من عمرها تقريبًا. تكتب القدّيسة جيرترود في “الرياضة الروحيّة” السابعة، تلك التي تخصّ الاستعداد للموت: “يا يسوع، أنت العزيز عليّكثيرًا، كن دومًا معي، كي يبقى قلبي معك ويثبت حبّك فيّ دون إمكانية انقسامويكون عبوري مُبارك منك، بحيث تتمكّن روحي، التي تحرّرت من عبوديّة الجسد،أن تجد على الفور الراحة فيك. آمين” (رياضات روحيّة ، ميلانو 2006 ، ص 148).
يبدو لي جليًّا أنّ هذه ليست مجرّد أشياء من التاريخالماضي، بل أنّ حياة القدّيسة جيرترود تبقى مدرسة حياة مسيحيّة، والطريقالمستقيم، وتبيّن لنا أنّ مركز الحياة السعيدة، الحياة الحقيقيّة، هيالصداقة مع يسوع الربّ. ونحن نتعلّم هذه الصداقة في المحبّة للكتابالمقدّس، والمحبّة لليتورجيا، والإيمان العميق، والمحبّة لمريم، من أجلمعرفة الله بشكلٍ واقعيّ أكثر ونجد هكذا السعادة الحقيقيّة أيضًا، هدفحياتنا. شكرًا.
منذ تلك اللحظة تعمّقت حياة الشراكة الحميميّة معالربّ، خصوصًا في الأزمنة الليتورجيّة الأهمّ – زمن المجيء والميلاد، زمنالصوم وعيد الفصح، أعياد العذراء - حتّى عندما كانت مريضة، وغير قادرة علىالتوجّه إلى الجوقة. إنّه نفس “الأساس” الليتورجيّ لِماتيلدا معلّمتها،التي تصفها جيرترود بِصُور ورموز وعبارات أكثر بساطة وعاديّة، وأكثرواقعيّة، بإشارات أكثر مباشرة للكتاب المقدّس وآباء الكنيسة والعالمالبينديكتيّ.
تُشير سيرة حياتها إلى اتّجاهَين يمكن أن نحدِّدهماكَـ “توبة” خاصّة بها: في الدراسات، بالانتقال الجذريّ من الدراساتالإنسانيّة العلمانيّة إلى الدراسات اللاهوتيّة، وفي التمسّك بالقانونالرهبانيّ، بالانتقال من الحياة التي كانت تعتبرها “مُهمِلة” إلى حياةالصلاة العميقة، التصوّفيّة، مع اتّقاد تبشيريّ خارق. وقد دعاها الربّ،الذي اختارها من لدن أمّها، وأشركها منذ طفولتها في وليمة حياة الرهبنة،بِنعمته “من الأشياء الخارجيّة إلى الحياة الداخليّة ومن الأعمال الدنيويّةإلى محبّة الأشياء الروحيّة”. وأدركت جيرترود أنّها كانت بعيدة عنه، “فيمنطقة الاختلاف”، كما تقول مع القدّيس أغسطينوس؛ وأنّها كرّست نفسها بكثيرمن الجشع للدراسات الليبراليّة والحكمة البشريّة، وتجاهلت العِلم الروحيّ،حارمةً نفسها من تذوّق الحكمة الحقيقيّة؛ والآن فهي تُقاد إلى جبل التأمّل،حيث تترك الإنسان القديم لتلبس الإنسان الجديد. “من الإلمام بِقواعد اللغةأصبحت ملّمة باللاهوت، مع القراءة الدؤوبة والمتنبّهة لجميع الكُتُبالمقدّسة التي كان يمكن أن تحصل عليها أو تجلبها بشكلٍ ما، كانت تملأ قلبهابالجمل الأكثر إفادة وعذوبة من الكتاب المقدّس. كان لها استعداد دائم لقولبعض الكلمات المستوحاة والمفيدة أخلاقيًّا لإرضاء مَن كان يأتيلاستشارتها، ومعها نصوص من الكتب المقدّسة الأكثر ملاءمة لدحض كلّ رأي خاطئوكمّ أفواه مُعارضيها” (المرجع نفسه، الكتاب الأوّل، 1، ص 25).
حوّلت جيرترود كلّ هذا إلى مهمّة رسوليّة: وانكبّت علىكتابة ونشر حقيقة الإيمان بِوضوح وبساطة، وبِنعمة وقدرة على الإقناع،خادمةً بمحبّة وأمانة الكنيسة، حتّى أصبحت مفيدة ومرحّب بها لدى علماءالدين والأناس الورِعين. لقد بقي لنا القليل من هذه الأعمال المكثّفة، وذلكأيضًا بسبب الأحداث التي أدّت إلى تدمير دير هيلفتا. فعدا عن “فارسالمحبّة الالهيّة” أو “الإيحاءات”، بقيت لنا “الرياضات الروحيّة”، وهيجوهرة نادرة في الأدب التصوّفي الروحيّ.
أمّا في مُراعاة القوانين الدينيّة فإنّ قدّيستنا هي “عَمود صلب [...]، تُدافِع بحزم عن العدالة والحقيقة” (المرجع نفسه، الكتابالأوّل، 1، ص 26)، كما تقول كاتبة سيرة حياتها. وتثير في الآخرين حماسةًكبيرة بكلامها ومِثالها. وتُضيف إلى الصلوات والتكفيرات عن الذنوب فيالقانون الرهبانيّ أشياء أُخرى بِتفانٍ وتسليم واثق بالله، فَتثير في منيلتقي بها الوعي بأنّهم في حضور الربّ. وبالواقع فقد جعلها الله نفسه تفهمأنّه دعاها لتكون أداة نعمته. تشعر جيرترود تجاه هذا الكنز الإلهيّ الثمينبأنّها غير مستحقّة، وتعترف بأنّها لم تحافظ عليه وتُعطيه حقّ قدره. فتهتف: “واحسرتاه! لو أنّك أعطيتني كَذِكرٍ منك، من غير استحقاق منّي، حتّى خيطًاواحدًا من حشو الكراسيّ والمقاعد، لكنت نظرت إليه بِمزيد من الاحتراموالإجلال من هذه العطايا خاصّتك” (المرجع نفسه، الكتاب الثاني، 5، ص 100). ولكنها، مع الاعتراف بِفقرها وعدم استحقاقها، تمسّكت بإرادة الله، كماتؤكِّد: “لأنّي قد استفدتُ قليلاً جدًّا من نِعمك حتّى إنّي لا أستطيع أنأصدّق أنها قد مُنِحت لي وحدي، فحكمتك الأبديّة غير قادرة على الشعوربالإحباط من قِبَل أحد. فافعل إذن، يا مُعطيَ كلّ خير، يا مَن منحتنيمجانًّا عطايا غير مُلزمة، أن يتأثّر بقراءة هذا المخطوط قلبٌ واحد علىالأقلّ من أصدقائك للتفكير والحماس للنفوس والذي قادك لترك جوهرة لا تُقدّرقيمتها بثمن لفترة طويلة وسط وحول قلبي البغيض” (المرجع نفسه، الكتابالثاني، 5، ص 100 وما يليها).
كانت هناك، على وجه الخصوص، عطيّتانعزيزتان أكثر منأيّ شيء آخر عليها، كما تكتب جيرترود بنفسها: “سِمات جروحاتك الخلاصيّةالتي طبعتَها فيّ، كالجواهر الثمينة، في القلب، وجرح المحبّة العميقوالمفيد الذي طبعته به. لقد غمرتني بعطاياك هذه بكثير من الغبطة، ولو كنتسأعيش ألف سنة دون أيّ عزاء داخليّ أو خارجيّ، لكان كفاني ذِكرُها لأستريحوأستنير، وأمتلئ بالامتنان. كنت تودّ بعدُ إدخالي في حميميّة صداقتك التيلا تقدّر بثمن، فاتحًا لي بطرق مختلفة ذاك الحرم الداخلي النبيل لألوهيّتكالذي هو قلبك الإلهيّ [...]. وفوق كلّ تراكم الفوائد هذا زدتَ لي منحيكمحاميةٍ كليّة القداسة مريم العذراء، أمّك، وأوصيت بي إلى عاطفتها كمايوصي أكثر الأزواج إخلاصًا بزوجته الحبيبة إلى والدته” (المرجع نفسه،الكتاب الثاني، 23، ص 145).
وأنهت حياتها الأرضيّة في 17 تشرين الثاني/نوفمبر منعام 1301 أو 1302، متوجّهةً صوب التواصل اللامتناهي، وهي في السادسةوالأربعين من عمرها تقريبًا. تكتب القدّيسة جيرترود في “الرياضة الروحيّة” السابعة، تلك التي تخصّ الاستعداد للموت: “يا يسوع، أنت العزيز عليّكثيرًا، كن دومًا معي، كي يبقى قلبي معك ويثبت حبّك فيّ دون إمكانية انقسامويكون عبوري مُبارك منك، بحيث تتمكّن روحي، التي تحرّرت من عبوديّة الجسد،أن تجد على الفور الراحة فيك. آمين” (رياضات روحيّة ، ميلانو 2006 ، ص 148).
يبدو لي جليًّا أنّ هذه ليست مجرّد أشياء من التاريخالماضي، بل أنّ حياة القدّيسة جيرترود تبقى مدرسة حياة مسيحيّة، والطريقالمستقيم، وتبيّن لنا أنّ مركز الحياة السعيدة، الحياة الحقيقيّة، هيالصداقة مع يسوع الربّ. ونحن نتعلّم هذه الصداقة في المحبّة للكتابالمقدّس، والمحبّة لليتورجيا، والإيمان العميق، والمحبّة لمريم، من أجلمعرفة الله بشكلٍ واقعيّ أكثر ونجد هكذا السعادة الحقيقيّة أيضًا، هدفحياتنا. شكرًا.