طلب
خوري ضيعتنا تهيئة مغارة عيد الميلاد من غلوريا ونويل، وهما عضوان نشيطان
من أطفال خدمة القدّاس. وبينما يُنزلان شخوص المغارة من سقيفة السكرستيّا
سقطت علبة الشخوص على الأرض وتكسّرت محتوياتها، وتصدّع الطفلان وأجهشا
بالبكاء.
كانت الشخوص كبيرة جدّاً ليست بحجم شخوص البيوت بل أكبر بكثير لكي تناسب حجم مغارة الكنيسة، ربما بحجم البشر.
إنها
غلطة الأبونا، "الختيار" كما يسمّيه أهل الضيعة، لأنه لم ينتبه أن هذا
العمل يناسب العمر الأكبر من عمر غلوريا ونويل.. ولكن هذا ما حصل!..
- يا للمفاجأة!.. صرخ نويل،
- ماذا؟.. ردّت غلوريا:
- هناك شخص واحد لم يصب بأذى أبداً
- مَنْ؟..
- إنه شخص الطفل يسوع.. ربما لأنه صغير لم يتصدّع!..
وحدها الشخوص الكبيرة أمام السقوط تتكسّر، ويصعب ترميمها!...
الصغار، وإن تكسّروا، يترمّمون بسهولة!..
قبّل كلّ من غلوريا ونويل شخص الطفل يسوع (الصغير) وشكرا الله على أنه لم يتكسّر..
لمعت فجأة لهما فكرة تنقذهما من هذه المشكلة:
- لمَ لا نصنع شخوصاً حقيقيّين يقومون بأدوار شخوص المغارة..
أغمضا العيون وصليا من باب السكرستيا المطلّ على الكنيسة.. ثم أخذا يتحاوران:
- العم نيقولا يشبه مار يوسف..
- ولكن هل يقبل؟
- نعم يقبل بكل تأكيد.. إنه متواضع ولطيف..
- ولكنه يحب الصمت.. لن يستطيع أن يمثّل..
-
ومن قال أن مار يوسف لم يكن إلا كذلك: إنسان الصمت والتواضع.. لنفتح
الإنجيل ونبحث عن كلمة واحدة تفوّه بها يوسف.. لن نجد.. إنه إنسان الطاعة
لكلمة الله.. لقد تحرّك الطفل يسوع في أحشاء مريم، أما يوسف فكلمة الله هي
التي حركّته..
- وأين؟.. هه.. في الحلم.. فعلاً إنه رائع.. عظيم.. كم عظيم أنت تكون كلمة الله برنامجاً لحياتنا.
- اذهب يا يوسف.. يذهب.. ائتِ يا يوسف.. ياتي.. إنه العم نيقولا تماماً!..
-
فعلاً إنه الرجل المناسب.. رأيته ذات عيد يحمل كيس ألعاب ويضع محتوياتها
أمام بيوت العائلات الفقيرة، ثم يقرع الباب ويهرب لكي لا يُعرف صاحب
الهدايا.. يا له من إنسان سخيّ!
-
ألم ينقذ، كما أنقذ يوسف يسوع، ابن ماغدالينا لمّا حكم عليها بالسجن فجاء
به إلى بيته وكأنّه ابنه من لحمه ودمه، وأعاده إلى أمه بعد أن خرجت من
السجن؟...
- ولكنّه دائم التفكير رغم بساطته.. ترى بماذا يفكّر؟
-
أظنّ أنه، رغم صمته وتسليمه مشيئته لله، لم يفهم بعد لمَ توفيّت زوجته
وابنته بوباء اجتاح الضيعة!.. لن يفهم الألم.. هناك طرق أخرى لاستيعابه..
- متى توفيتا الزوجة والابنة؟
- منذ زمان طويل.. قبل نولد نحن.. كما أخبرتني جدّتي.
- هل يقبل العم نيقولا أن يكون مار يوسف؟
-
نعم سيقبل.. ولديه حمار شديد الدهشة يناسب المشهد.. سيفتح الحمار فمه
علامة الدهشة أمام ميلاد يسوع.. ليت البشر يتعلّمون منه الدهشة!
- كم من مرّة سخّرته جدتي المريضة أن يجلب لها الماء من النبع، فلبّى هو والحمار بفرح العطاء..
- نعم إن العطاء أكثر غبطة من الأخذ..
- إذاً، العم نيقولا سيصير مار يوسف.. يا ألله كم ستكون ابتسامته رائعة!؟..
- ومريم؟.. من سيُلبي هذا الدور الصعب؟
- لا أبداً.. لم أجد في الدنيا أبسط من مريم
- أء؟..
-
نعم.. علينا أن نظهرها كما هي، لكي نستطيع نحن والناس التشبّه بها، لا
نجعلها أسطورة يصعب التشبه بها.. لا ننسى أنها ليست شفيعة فقط، بل قدوة
أيضاً.
- ما رأيك بـ"سارة"؟
- ســـــــــــــارة!؟.. ء..ء.. سارة تقوم بدور مريم؟!
- لمَ لا..
- ولكنّها خادمة حبشيّة.. وسوداء!
-
ولكنّها قديسة.. لم أرها يوماً تتأفّف من عمل.. دائمة الابتسامة.. تحضر
القدّاس كلّ يوم.. لا بل تأتي قبل القدّاس تصلي المسبحة.. ويتكل عليها
"الأبونا" في تنظيف وترتيب السكرستيا وثياب الخدمة.. الجميع يحبونها منذ أن
جاءت إلى الضيعة.. لا أحد يعتبرها غريبة.. وهي أيضاً تحبّ الجميع..
- نعم إنها مناسبة.. ولكن.. أْء..
- لم أرَ أحداً في حياتي يمتلئ من حفظ الأشياء في القلب والتأمّل بها مثلها، أو يتأقلم مع أي واقع مهما كان صعباً وقاسياً.
-
عندما تقطف العنب ليصير خمراً، أو تحصد القمح ليُصبح خبزاً، كانت تغنّي
بدهشة، (بلغة بلدها طبعاً).. سألتها مرّة ماذا تغنّي، فقالت بلغتها
المكسّرة إنها أغنية التعبير الدهشة والتعجب والرجاء: "يا له من عجب
مستغرب، كيف يتحوّل عصير العنب إلى خمر!.. يا لها من معجزة كيف تخرج الأرض
حبّات القمح لتصير خبزاً لذيذاً!"... ترى هل يستطيع البشر أن يفهموا هذا
التحوّل، فيحولون العنف إلى حب، والجوع إلى سخاء، والتعب إلى رجاء....
- يا لها من أغنية رائعة!..
- رأيتها مرّة أمام باب صف الروضة وقد امتلأت عيناها بالبكاء..
- لماذا؟..
-
ربما لأنها تذكّرت أولادها الذين تركتهم لكي تأتي وتعمل من أجلهم.. ولكن
حالما لمحت أنني أنظر إليها تحوّلت دموعها إلى ابتسامة مشرقة..
- نعم إنها رائعة.. وحدهم الفقراء يعرفون أن يحوّلوا الألم إلى رجاء، كما أغنية الخبز والخمر..
- ذات مرّة رأيتها تشجّع طلاب البكالوريا وتقول لهم: "إنني أصلّي كلّ يوم من أجلكم"..
- بالفعل رأيتها أمام أيقونة العذراء تشعل ثمانية عشرة شمعة بعدد طلاب البكالوريا في الضيعة
- ونجحوا كلّهم؟!...
- نعم.. نجحوا كلّهم..
- إذاً سارة مريم!..
- والرعيان؟.. من سنتختار ليقوم بهذا الدور..
- إنهم أسهل اختيار.. نطلب من نعمة وزوجها نعيم وأولادهما التسع مع خرافهم وبقرهم أن يقوم بالأدوار المطلوبة..
- إنهم رعيان حقيقيين؟!
- نعم: بساطة.. رتابة.. فقر.. ثياب مرقّعة.. ورائحة الترقب تفوح من قلوبهم كما تفوح رائحة الخراف والمغائر من أجسادهم.
- سخاء.. فرح.. استعداد..
- بزق.. ناي.. أصوات عذبة...
- يا ألله كم يناسبون الموقف!..
- بقي المجوس.. هنا الاختيار الصعب!.. من سنختار ليقوم بأدوار المجوس؟
- م.. م.. م..
-
"الأبونا".. يقوم بدور مجوسيّ البخور.. لأن مَن مثله يحسن التمجيد.. إنه
إنسان الصلاة.. من مثله يسهر ويصلّي وينتبه ويبادر ويترقّب.. كما المجوس،
لأنهم يقظين اكتشفوا النجم، "الأبونا" يكتشف موهبة كلّ واحد منّا..
-
لقد ترك الأبونا المدينة ومجدها وفخامتها وأتى إلى ضيعة بسيطة متواضعة،
وسكن في قبّة جرس الكنيسة ليمضي وقت فراغه بالسجود والتعبّد من خلال
النافذة المطلّة على الكنيسة.. فعلاً إنه بخور ضيعتنا.
- "السيد أنطون" يقوم بدور من يقدّم الذهب، فهو غنيّ وسخي...
-
لقد سمعت من أبي أن السيد أنطون جاء من أحد بلدان المهجر، حيث هاجر أهله
إليه وتركوا أموالهم وبساتينهم في أثناء الحرب، وبعد أن انتهت الحرب لم
يفضّلوا العودة، فأرسلوا أنطون ابنهم الذي ولد في المهجر وقد أصبح شابّاً
لكي يبيع الرزق ويعود إليهم، أما هو وبعد أن جاء من بلده البعيد أحب بساطة
الضيعة، وبقي فيها مغدقاً على أهلها المشاريع: معمل ألبان وأجبان، معمل عسل
ومشغل لصنع الشمع، ورشات للنساء خياطة وحياكة وصنع المربيات والمخللات..
لقد استثمر ما عنده من أجل غيره.. ألا يستحق أن يُقدّم الذهب ليسوع؟!..
- بقي الثالث.. من يا ترى؟...
- ء...ء... ء.. وجدتها.. الدكتور باسيل يكون صاحب المرّ
-
نعم.. إنه الأنسب لأنه ذاق المرّ في محن حياته ويعرف كيف يبلسم وجع
المرضى.. لا يعرف أحد أن يداوي المتألّم إلا من اختبر الألم.. يبدو أن
الألم مدرسة الشفاء.
- لقد سمعت أنه ابتلي مرّة بعدوى الوباء لكثرة من عالج.. وانحنى ظهره من شدّة تواضعه..
- الثلاثة هم المطلوبون ليقوموا بهذه الأدوار.
- .... بقي الملائكة..
- أء.. آه..
- أف.. يكفي..
- لنترك دوراً يختاره الله بنفسه
- نعم .. يجب على الله أن يختار الملائكة.. لقد تعبنا..
- ها.. عندما نتعب فقط نفكّر بدور الله
- ألا تظن أن الله كان وراء كل الأدوار..
- نعم.. الميلاد.. يد منه ويد منّا...
-
ليكن الناس بأجمعهم ملائكة ليلة الميلاد، ولنرتّل معاً: "المجد لله في
الأعالي وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرّة".. وليحتفل الأبونا الختيار
بثياب المجوس بالقدّاس وليكن قدّاسه بخورنا,,
هكذا
صنع نويل وغلوريا مغارة بشر. لم يشأ الأبونا أن يترك شخص يسوع من الحجر..
ترك المكان فارغاً ليهتف في نهاية القدّاس.. ابحثوا عن يسوع.. فسأل كلٌّ
منّا أهو في قلبي؟!.. ولم استنتجنا جميعنا الإجابة رتلنا مجدّداً: "المجد
لله في العلى وعلى الأرض السلام وفي الناس المسّرة"...
انتهت القصة.
ملحق:
وبينما خرج الجميع من الكنيسة لمح كلّ من نويل وغلوريا عند زاوية الشارع
رجلاً يرتدي ثياباً فخمة وقلنسوة فاخرة ويحمل عصاً قبضتها من فضّة ويحيط به
حاشية من "البديكارديّة" (الحراس الخاصّين) إنه "الآغا" الإقطاعي الكبير
في الضيعة.
- لا أحد يحبّ الآغا
- لأنه يسرق تعب الناس
- الكلّ يخافه لأنه يسيطر على مقدّرات الجميع
- الكثير من البيوت باسمه، ويأخذ لآجارها غالياً
- مدرسة الضيعة ملكه، أقساطه مرتفعة
- ورشات، عمّال، فلاحون، كلّهم يأتمرون بامره
- وبحجة أنه شريك صغار الكسبة يشاركهم لكي يسيطر على الكل..
- لا يرى إلا أنانيّته.. لا صديق له.. لا يثق بأحد.. يقول أبي أنه يعاني من عقدة الـ"الميغالومينا" أي "عقد العظمة"..
-
والأنكى أنه يوهم الناس بمشاريع خلّبية، والناس لبساطته يصدقونه فيحرمون
أنفسهم ليتبرّعو لمشاريعه (الخيريّة الكاذبة).. حتى الجمعيّة الخيريّة نفسه
يسيطر عليها وتأتمر بأمره..
- ويقال أنه متنفّذ عند الحكومة..
- الجميع يمتدحوه في وجهه ويسبّونه في ظهره.. يبوسون يده علناً وفي قلوبهم يدعون عليها بالكسر!..
- يغار جدّاً.. حتى من أولاده، ويضرب زوجته،
- مغرور، متعالي، يجعل نفسه فوق الجميع ، حتى "فوق الله" كما تقول جدّتي.. "استغفر الله" كما تتابع جدّتي...
- أتراه ينفع لدور هيرودس؟!
انتهى الملحق..
ملحق رقم 2:
خرج الناس من الكنيسة ليلة العيد يحلمون في قلوبهم فرح يسوع..
داهمهم
الآغا.. فمدّ يده لتقبّل.. وأخذ بالمحاسبة.. لهذا دين طالبه به، ولذاك
ضريبة حاسبه عليها.. هذا هدّده بالسجن وذاك شغّله بالسخرة. وعندما تجمّع
الناس في باحة الكنيسة ليحتفلوا بهدايا ببانويل للأطفال، جنّ جنونه لأنه لم
يحصل على هدية (يغار حتى من الأطفال) ، فاستلّ عصاه كمن يشهر السيف وأخذ
يضرب، هو وزلمه، الناس يمنة ويسرى ويخصّ بالضرب الصغار لأنهم أخذوا
الهدايا.
ملحق 3:
هرب
كلّ من غلوريا ونويل من بطش الأغا ومعهم شخص يسوع الطفل، وانزووا في مغارة
قرب الضيعة.. عتم بهيم، رائحة عفن، برد قاص.. ولكنّهم هرّبوا يسوع.
ملحق 4:
لمّا
كبر الصديقان تزوجا وأنجبا صبياناً وبناتٍ ما يناسب شخوص المغارة، وكانا
كل عيد ميلاد يقوما مع أولادهما بتكوين المغارة والاحتفال بالميلاد، ويضعا
شخص يسوع في الوسط.
ملحق 5 أخير:
بعد
ثلاث وثلاثين سنة، وقد مات "الأبونا" وجاء غيره، فاشترى الخلف، على عكس
السلف، اشترى من روما أفخم الشخوص، وكان يطلب من الوجهاء وأولاد الآغا
حلفاءه التبرعات لكي تكون مغارة الضيعة الأكبر والأغنى في البلاد وليسرّب
من المال لجيبه..
مرّة وقع
من يديّ غلوريا ونويل شخص الطفل يسوع العتيق وتكسّر كأنه صار رماداً.
وإذاك كبر الأولاد فصاروا مع أبويهما يحتفلان كل صوم برتبة "درب الصليب"،
بدل احتفال المغارة.. ولكنهم كانوا يضيفون إلى درب صليبهما مرحلة جديدة:
"لنتأمّل يسوع يقوم من بين الأموات لرجاء الحياة الجديدة".
انتهت القصة أخيراً.