إخوتي وأخواتي الأعزّاء،
اليوم، وقد مُسحْنا بِرمز الرماد المُهيب، ندخل زمن الصوم الكبير، بادئين مسيرة روحيّة تحضّرنا للاحتفال بطريقة لائقة بأسرار عيد الفصح. فالرماد المُبارك الذي يوضع على رؤوسنا علامةٌ تذكّرنا بِوضعنا خلائق، وتدعونا إلى التوبة وإلى تكثيف جهود الاهتداء لِنتبع الربّ أكثر فأكثر.
زمن الصوم هو درب، هو مرافقة يسوع الصاعد إلى أورشليم، مكان اكتمال سرّ الآمه وموته وقيامته؛ يذكّرنا أنّ الحياة المسيحية هي "طريق" علينا اجتيازه، لا يتكوّن من قانون يجب مُراعاتها، بل من شخص المسيح نفسه، يجب ملاقاته، اقتباله، اتّباعه. فيسوع يقول لنا: “مَن أراد أن يتبعني، فليكفر بنفسه ويحمل صليبه كلّ يوم ويتبعني” (لوقا 9، 23). أي إنّه يقول لنا، لكي نصل معه إلى النور وفرح القيامة، إلى انتصار الحياة والمحبّة والخير، إنّه يجب علينا نحن أيضًا أن نحمل الصليب كلّ يوم، كما تحثّنا على ذلك صفحة جميلة من كتاب “الاقتداء بالمسيح”: "فاحمل إذن صليبك واتبع يسوع، تبلغ إلى الحياة الأبديّة. لقد سبقكَ هو "حاملاً صليبه" (يوحنّا 19، 17) ومات لأجلك على الصليب، لكي تحمل أنت أيضًا صليبك، وتتوق إلى الموت على الصليب. فإنّك “إن مُتَّ معه، فستحيا معهُ”؛ وإن شاركتهُ في العذاب، فستشاركهُ في المجد أيضًا” (السِفر الثاني، الفصل الثاني عشر، الفقرة الثانية). في القدّاس الإلهيّ للأحد الأوّل من زمن الصوم سوف نصلّي: “اللّهم أبانا، بالاحتفال بزمن الصوم هذا، وهو العلامة الأسراريّة على توبتنا، امنح المؤمنين بك أن ينموا في معرفة سرّ المسيح وأن يشهدوا له بأسلوب حياة لائق” (صلاة الاسترحام). إنّه ابتهال نوجّهه إلى الله لأنّنا نعلم أنّه وحده يستطيع أن يهدي قلوبنا. ولاسيّما في الليتورجيا، وفي المشاركة في الأسرار المقدّسة، نكون مُقتادين لاجتياز هذا الدرب مع الربّ؛ إنّه نوعٌ من وَضْع أنفسنا في مدرسة يسوع، واقتفاءِ الأحداث التي جلبت لنا الخلاص، ولكن ليس كمجرّد إحياء ذكرى، تذكار لأحداث ماضية. ففي الأعمال الليتورجيّة، يجعل المسيح نفسه حاضرًا بواسطة عمل الروح القدس، وتصبح تلك الأحداث الخلاصيّة آنيّةً.
اليوم، وقد مُسحْنا بِرمز الرماد المُهيب، ندخل زمن الصوم الكبير، بادئين مسيرة روحيّة تحضّرنا للاحتفال بطريقة لائقة بأسرار عيد الفصح. فالرماد المُبارك الذي يوضع على رؤوسنا علامةٌ تذكّرنا بِوضعنا خلائق، وتدعونا إلى التوبة وإلى تكثيف جهود الاهتداء لِنتبع الربّ أكثر فأكثر.
زمن الصوم هو درب، هو مرافقة يسوع الصاعد إلى أورشليم، مكان اكتمال سرّ الآمه وموته وقيامته؛ يذكّرنا أنّ الحياة المسيحية هي "طريق" علينا اجتيازه، لا يتكوّن من قانون يجب مُراعاتها، بل من شخص المسيح نفسه، يجب ملاقاته، اقتباله، اتّباعه. فيسوع يقول لنا: “مَن أراد أن يتبعني، فليكفر بنفسه ويحمل صليبه كلّ يوم ويتبعني” (لوقا 9، 23). أي إنّه يقول لنا، لكي نصل معه إلى النور وفرح القيامة، إلى انتصار الحياة والمحبّة والخير، إنّه يجب علينا نحن أيضًا أن نحمل الصليب كلّ يوم، كما تحثّنا على ذلك صفحة جميلة من كتاب “الاقتداء بالمسيح”: "فاحمل إذن صليبك واتبع يسوع، تبلغ إلى الحياة الأبديّة. لقد سبقكَ هو "حاملاً صليبه" (يوحنّا 19، 17) ومات لأجلك على الصليب، لكي تحمل أنت أيضًا صليبك، وتتوق إلى الموت على الصليب. فإنّك “إن مُتَّ معه، فستحيا معهُ”؛ وإن شاركتهُ في العذاب، فستشاركهُ في المجد أيضًا” (السِفر الثاني، الفصل الثاني عشر، الفقرة الثانية). في القدّاس الإلهيّ للأحد الأوّل من زمن الصوم سوف نصلّي: “اللّهم أبانا، بالاحتفال بزمن الصوم هذا، وهو العلامة الأسراريّة على توبتنا، امنح المؤمنين بك أن ينموا في معرفة سرّ المسيح وأن يشهدوا له بأسلوب حياة لائق” (صلاة الاسترحام). إنّه ابتهال نوجّهه إلى الله لأنّنا نعلم أنّه وحده يستطيع أن يهدي قلوبنا. ولاسيّما في الليتورجيا، وفي المشاركة في الأسرار المقدّسة، نكون مُقتادين لاجتياز هذا الدرب مع الربّ؛ إنّه نوعٌ من وَضْع أنفسنا في مدرسة يسوع، واقتفاءِ الأحداث التي جلبت لنا الخلاص، ولكن ليس كمجرّد إحياء ذكرى، تذكار لأحداث ماضية. ففي الأعمال الليتورجيّة، يجعل المسيح نفسه حاضرًا بواسطة عمل الروح القدس، وتصبح تلك الأحداث الخلاصيّة آنيّةً.
هناك كلمة رئيسيّة تعود بشكل متكرِّر في الليتورجيا للإشارة إلى هذا: إنّها كلمة "اليوم"؛ ويجب أن تُفهم بمعناها الأصليّ المحسوس، وليس المجازيّ. اليومَ يكشف الله عن شريعته وقد أعطي لنا اليومَ للاختيار بين الخير والشر، بين الحياة والموت (راجع سفر التثنية 30؛ 19)؛ اليوم قد “اقترب ملكوت الله. فتوبوا وآمنوا بالإنجيل” (مرقس 1؛ 15)؛ اليومَ مات المسيح على الجلجلة وقام من بين الأموات؛ وصعد إلى السماء وجلس عن يمين الله الآب؛ اليومَ وُهِبْنا الروح القدس؛ اليومَ هو وقت الرضى. المشاركة في الليتورجيا تعني انغماس الحياة الخاصّة في سرّ المسيح، في حضوره الدائم، واجتياز درب ندخل فيه في موته وقيامته لتكون لنا الحياة.
في آحاد زمن الصوم، وبشكلٍ خاصّ في هذا العام الليتورجيّ للدورة الطقسيّة “ألِف“، نحن مدعوّون لنعيش مسيرة معمدانيّة، كما لو كنّا نسترجع درب الموعوظين، أي الذين يستعدّون لتلقّي العماد، لإحياء هذه الهِبة فينا وجعل حياتنا تسترجع متطلّبات والتزامات هذا السرّ، الذي يكمن في أساس حياتنا المسيحيّة. في الرسالة التي وجّهتُها لزمن الصوم الكبير هذا، أردتُ أن أستذكر العلاقة الخاصّة التي تربط زمن الصوم بالمعموديّة. منذ البداية والكنيسة تقرن بين ليلة الفصح والاحتفال بالمعموديّة، خطوةً خطوة: بالمعموديّة يتحقّق ذاك السرّ الكبير الذي يصبح به الإنسان، المائت بالخطيئة، مشاركًا في الحياة الجديدة في المسيح القائم من الموت ويتلقّى روح الله الذي أقام يسوع من بين الاموات (الرسالة إلى أهل روما 8؛ 11). إنّ القراءات التي سنسمعها في الآحاد المُقبلة، والتي أدعوكم لإيلائها اهتمامًا خاصًّا، مأخوذة تحديدًا من التقليد القديم، الذي كان يُرافق الموعوظ في اكتشاف المعموديّة: إنّها الإعلان الكبير لما يقوم به الله في هذا السرّ، إنّه تعليم مسيحيّ معمدانيّ رائع موجّه إلى كلّ واحدٍ منّا. الأحد الأوّل، المسمّى أحد التجربة، لأنّه يعرض تجارب يسوع في البريّة، يدعونا إلى تجديد قرارنا النهائي نحو الله ومواجهة الصراع الذي ينتظرنا بشجاعة لكي نبقى مُخلصين له. هناك دائمًا هذه الحاجة للقرار من جديد، لمقاومة الشرّ، واتّباع يسوع. في هذا الأحد تحتفل الكنيسة، بعد سماع شهادة العرّابين وأساتذة التعليم المسيحيّ، بانتقاء المقبولين للأسرار الفصحيّة. الأحد الثاني يُسمّى أحد إبراهيم والتجلّي.
المعموديّة هي سرّ الإيمان والبنوّة الإلهيّة؛ فمثل إبراهيم، أبي المؤمنين، نحن أيضًا مدعوّون للرحيل، للخروج من أرضنا، والتخلّي عن الضمانات التي بنَيناها، كي نضع ثقتنا بالله؛ يمكن رؤية الهدف في تجلّي المسيح، الابن الحبيب، الذي به نُصبح “أبناء الله”. في الآحاد التالية تُقدَّم المعموديّة في صُور الماء والنور والحياة. الأحد الثالث يتيح لنا لقاء المرأة السامريّة (يوحنّا 4، 5-42). مثل إسرائيل في سفر الخروج، نحن أيضًا في المعموديّة قد تلقّينا الماء التي تُخلِّص؛ يقول يسوع للمرأة السامريّة، إنّ لديه ماء الحياة التي تُطفئ كلّ ظمأ؛ وهذه الماء هي روحه نفسها. تحتفل الكنيسة في هذا الأحد في الاقتراع الأوّل للموعوظين وتمنحهم خلال الأسبوع: قانون الإيمان، النؤمن. أمّا الأحد الرابع فيجعلنا نتأمّل بِتجربة “الأعمى منذ مولده” (يوحنّا 9، 1-41). ففي المعموديّة نتحرَّر من ظلمات الشرّ ونحصل على نور المسيح لنعيش كأبناء النور. نحن أيضًا يجب علينا أن نتعلّم رؤية حضور الله في وجه المسيح، وبالتالي النور.
في طريق الموعوظين يُحتفل بالاقتراع الثاني. وفي النهاية، يقدِّم الأحد الخامس لنا قيامة لعازر (راجع يوحنّا 11، 1-45). لقد مررنا في المعموديّة من الموت إلى الحياة وأصبح بإمكاننا إرضاء الله، فنُميت الإنسان القديم لِنعيش في روح القائم من الموت. بالنسبة للموعوظين يُحتفل بالاقتراع الثالث ويتمّ تسليمُهم خلال الأسبوع الصلاة الربّانية: “الأبانا”.
تمتاز مسيرة زمن الصوم هذه التي نحن مدعوّون للقيام بها، في تقليد الكنيسة، ببعض الممارسات: الصوم والصدقة والصلاة. الصوم يعني الامتناع عن الطعام، لكنّه يشمل أشكالاً أخرى من الحرمان من أجل حياة أكثر زهدًا. لكنّ كلّ هذا ليس بعدُ الواقع الكامل للصوم: فهو سِمة خارجيّة لِواقع داخليّ، لجهدنا، بعون الله، من أجل الامتناع عن الشرّ وعيش الإنجيل. لا يصوم حقًّا مَن لا يعرف كيف يقتات من كلمة الله.
الصوم في التقليد المسيحيّ مرتبط أيضًا ارتباطًا وثيقًا بالصدقة. كان القدّيس لاوون الكبير يعلّم في إحدى خطبه حول زمن الصوم: “ما هو مطلوب من كلّ مسيحي في كلّ الأزمان يجب أن يمارسه ] في زمن الصوم [ بِمزيد من الاهتمام والتفاني، كي يستوفي القاعدة الرسوليّة للصوم الأربعينيّ التي لا تتألّف فقط من الامتناع عن الطعام، ولكن أيضًا وقبل كلّ شيء من الامتناع عن الخطايا. وبالتالي فهذه الصيامات المتوجِّبة والمقدّسة، لا يمكن أن نُقرنها بعملٍ مفيدٍ أكثر من الصدقة، التي تكتنف الكثير من الأعمال الخيّرة تحت اسم وحيد هو "الرحمة". وسيعٌ هو حقل أعمال الرحمة. ليس الأغنياء والميسورين وحدهم مَن يُمكنهم أن يُفيدوا الآخرين بالصدقة، بل أيضًا الذين هم في وضع متواضع وفقير. وهكذا يُمكن للجميع، رغم عدم تكافئهم في الثروة، أن يكونوا متساوين في مشاعر رحمة الروح” (الخطاب السادس حول الصوم الكبير 2: ب ل 54 ، 286).
وذكر القدّيس غريغوريوس الكبير، في "القاعدة الرعويّة، أنّ الصيام يصبح مقدّسًا بالفضائل التي تصحبه، ولاسيّما الإحسان، وكلّ بادرة سخاء، تعطي الفقراء والمحتاجين ثمار حرمانٍ لنا (راجع 19، 10-11).
زمن الصوم هو أيضًا وقت مميّز للصلاة. يقول القدّيس أغسطينوس إنّ الصوم والصدقة هما “جناحا الصلاة”، اللذان يسمحان لها بأن تندفع بسهولة للوصول إلى الله، ويؤكِّد: “بهذه الطريقة فصلاتُنا تقام بِتواضع ومحبّة، في الصوم والصدقة، في الاعتدال ومغفرة الإساءة، في هبة الجيّد وعدم ردّ السيّئ، مُبتعدين عن الشرّ وعاملين الخير. هكذا فإنّها صلاتنا تبحث عن السلام وتدركه. بأجنحة هذه الفضائل تطير أمينة وتُحمل بسهولة أكثر إلى السماء، إلى حيث سبقنا المسيح سلامُنا” (عظة 206، 3 حول زمن الصوم الكبير: ب ل 38، 1042). والكنيسة تعلم أنَّه من الصعب، بسبب ضعفنا، إيجاد السكون كي نضع أنفسنا أمام الله، ونُصبح على بيّنة من وضعنا كخلائق تعتمد عليه، وخُطاة في حاجة إلى محبّته؛ لهذا، فهي تدعونا في زمن الصوم إلى صلاة أكثر إخلاصًا وعُمقًا وإلى تأمّل مُطوّل بِكلمة الله. يحثّنا يوحنّا الذهبيّ الفم قائلا: “زيِّن منزلك بالتواضع والاتّضاع بِممارسة الصلاة.
واجعل منزلك متألِّقًا بنور العدل؛ وزخرِف جدرانه بالأعمال الصالحة كما بِطَلاء الذهب الخالص، وبدلاً من الحيطان والعسجد ضع الإيمان والشهامة ما فوق الطبيعيّة، واضعًا فوق كلّ شيء، في أعلى القمّة، الصلاة لتزيين المجمّع بأكمله. هكذا تُعدُّ للربّ مسكنًا لائقًا، هكذا تستقبله في بِلاطٍ رائع. وهو سوف يمنحك أن تتحوّل روحك إلى هيكل حضوره” (عظة 6 حول الصلاة: ب ج 64، 466).
أصدقائي الأعزّاء، لنحرص في مسيرة الصوم هذه على إدراك دعوة المسيح لنتبعه بشكلٍ أكثر تصميمًا وانسجامًا، مجدّدين نعمة معموديّتنا والتزاماتها، كي نتخلّى عن الإنسان القديم الذي فينا ونلبس المسيح، فنصل متجدّدين إلى الفصح، ويمكننا حينئذٍ أن نقول مع القدّيس بولس "فلستُ بعد أنا الحيّ، بل المسيح هو الحيّ فيَّ” (الرسالة إلى أهل غلاطية 2، 20). أتمنّى لكم جميعًا دربًا مجيدًا لكم في زمن صوم! شكرًا!
في آحاد زمن الصوم، وبشكلٍ خاصّ في هذا العام الليتورجيّ للدورة الطقسيّة “ألِف“، نحن مدعوّون لنعيش مسيرة معمدانيّة، كما لو كنّا نسترجع درب الموعوظين، أي الذين يستعدّون لتلقّي العماد، لإحياء هذه الهِبة فينا وجعل حياتنا تسترجع متطلّبات والتزامات هذا السرّ، الذي يكمن في أساس حياتنا المسيحيّة. في الرسالة التي وجّهتُها لزمن الصوم الكبير هذا، أردتُ أن أستذكر العلاقة الخاصّة التي تربط زمن الصوم بالمعموديّة. منذ البداية والكنيسة تقرن بين ليلة الفصح والاحتفال بالمعموديّة، خطوةً خطوة: بالمعموديّة يتحقّق ذاك السرّ الكبير الذي يصبح به الإنسان، المائت بالخطيئة، مشاركًا في الحياة الجديدة في المسيح القائم من الموت ويتلقّى روح الله الذي أقام يسوع من بين الاموات (الرسالة إلى أهل روما 8؛ 11). إنّ القراءات التي سنسمعها في الآحاد المُقبلة، والتي أدعوكم لإيلائها اهتمامًا خاصًّا، مأخوذة تحديدًا من التقليد القديم، الذي كان يُرافق الموعوظ في اكتشاف المعموديّة: إنّها الإعلان الكبير لما يقوم به الله في هذا السرّ، إنّه تعليم مسيحيّ معمدانيّ رائع موجّه إلى كلّ واحدٍ منّا. الأحد الأوّل، المسمّى أحد التجربة، لأنّه يعرض تجارب يسوع في البريّة، يدعونا إلى تجديد قرارنا النهائي نحو الله ومواجهة الصراع الذي ينتظرنا بشجاعة لكي نبقى مُخلصين له. هناك دائمًا هذه الحاجة للقرار من جديد، لمقاومة الشرّ، واتّباع يسوع. في هذا الأحد تحتفل الكنيسة، بعد سماع شهادة العرّابين وأساتذة التعليم المسيحيّ، بانتقاء المقبولين للأسرار الفصحيّة. الأحد الثاني يُسمّى أحد إبراهيم والتجلّي.
المعموديّة هي سرّ الإيمان والبنوّة الإلهيّة؛ فمثل إبراهيم، أبي المؤمنين، نحن أيضًا مدعوّون للرحيل، للخروج من أرضنا، والتخلّي عن الضمانات التي بنَيناها، كي نضع ثقتنا بالله؛ يمكن رؤية الهدف في تجلّي المسيح، الابن الحبيب، الذي به نُصبح “أبناء الله”. في الآحاد التالية تُقدَّم المعموديّة في صُور الماء والنور والحياة. الأحد الثالث يتيح لنا لقاء المرأة السامريّة (يوحنّا 4، 5-42). مثل إسرائيل في سفر الخروج، نحن أيضًا في المعموديّة قد تلقّينا الماء التي تُخلِّص؛ يقول يسوع للمرأة السامريّة، إنّ لديه ماء الحياة التي تُطفئ كلّ ظمأ؛ وهذه الماء هي روحه نفسها. تحتفل الكنيسة في هذا الأحد في الاقتراع الأوّل للموعوظين وتمنحهم خلال الأسبوع: قانون الإيمان، النؤمن. أمّا الأحد الرابع فيجعلنا نتأمّل بِتجربة “الأعمى منذ مولده” (يوحنّا 9، 1-41). ففي المعموديّة نتحرَّر من ظلمات الشرّ ونحصل على نور المسيح لنعيش كأبناء النور. نحن أيضًا يجب علينا أن نتعلّم رؤية حضور الله في وجه المسيح، وبالتالي النور.
في طريق الموعوظين يُحتفل بالاقتراع الثاني. وفي النهاية، يقدِّم الأحد الخامس لنا قيامة لعازر (راجع يوحنّا 11، 1-45). لقد مررنا في المعموديّة من الموت إلى الحياة وأصبح بإمكاننا إرضاء الله، فنُميت الإنسان القديم لِنعيش في روح القائم من الموت. بالنسبة للموعوظين يُحتفل بالاقتراع الثالث ويتمّ تسليمُهم خلال الأسبوع الصلاة الربّانية: “الأبانا”.
تمتاز مسيرة زمن الصوم هذه التي نحن مدعوّون للقيام بها، في تقليد الكنيسة، ببعض الممارسات: الصوم والصدقة والصلاة. الصوم يعني الامتناع عن الطعام، لكنّه يشمل أشكالاً أخرى من الحرمان من أجل حياة أكثر زهدًا. لكنّ كلّ هذا ليس بعدُ الواقع الكامل للصوم: فهو سِمة خارجيّة لِواقع داخليّ، لجهدنا، بعون الله، من أجل الامتناع عن الشرّ وعيش الإنجيل. لا يصوم حقًّا مَن لا يعرف كيف يقتات من كلمة الله.
الصوم في التقليد المسيحيّ مرتبط أيضًا ارتباطًا وثيقًا بالصدقة. كان القدّيس لاوون الكبير يعلّم في إحدى خطبه حول زمن الصوم: “ما هو مطلوب من كلّ مسيحي في كلّ الأزمان يجب أن يمارسه ] في زمن الصوم [ بِمزيد من الاهتمام والتفاني، كي يستوفي القاعدة الرسوليّة للصوم الأربعينيّ التي لا تتألّف فقط من الامتناع عن الطعام، ولكن أيضًا وقبل كلّ شيء من الامتناع عن الخطايا. وبالتالي فهذه الصيامات المتوجِّبة والمقدّسة، لا يمكن أن نُقرنها بعملٍ مفيدٍ أكثر من الصدقة، التي تكتنف الكثير من الأعمال الخيّرة تحت اسم وحيد هو "الرحمة". وسيعٌ هو حقل أعمال الرحمة. ليس الأغنياء والميسورين وحدهم مَن يُمكنهم أن يُفيدوا الآخرين بالصدقة، بل أيضًا الذين هم في وضع متواضع وفقير. وهكذا يُمكن للجميع، رغم عدم تكافئهم في الثروة، أن يكونوا متساوين في مشاعر رحمة الروح” (الخطاب السادس حول الصوم الكبير 2: ب ل 54 ، 286).
وذكر القدّيس غريغوريوس الكبير، في "القاعدة الرعويّة، أنّ الصيام يصبح مقدّسًا بالفضائل التي تصحبه، ولاسيّما الإحسان، وكلّ بادرة سخاء، تعطي الفقراء والمحتاجين ثمار حرمانٍ لنا (راجع 19، 10-11).
زمن الصوم هو أيضًا وقت مميّز للصلاة. يقول القدّيس أغسطينوس إنّ الصوم والصدقة هما “جناحا الصلاة”، اللذان يسمحان لها بأن تندفع بسهولة للوصول إلى الله، ويؤكِّد: “بهذه الطريقة فصلاتُنا تقام بِتواضع ومحبّة، في الصوم والصدقة، في الاعتدال ومغفرة الإساءة، في هبة الجيّد وعدم ردّ السيّئ، مُبتعدين عن الشرّ وعاملين الخير. هكذا فإنّها صلاتنا تبحث عن السلام وتدركه. بأجنحة هذه الفضائل تطير أمينة وتُحمل بسهولة أكثر إلى السماء، إلى حيث سبقنا المسيح سلامُنا” (عظة 206، 3 حول زمن الصوم الكبير: ب ل 38، 1042). والكنيسة تعلم أنَّه من الصعب، بسبب ضعفنا، إيجاد السكون كي نضع أنفسنا أمام الله، ونُصبح على بيّنة من وضعنا كخلائق تعتمد عليه، وخُطاة في حاجة إلى محبّته؛ لهذا، فهي تدعونا في زمن الصوم إلى صلاة أكثر إخلاصًا وعُمقًا وإلى تأمّل مُطوّل بِكلمة الله. يحثّنا يوحنّا الذهبيّ الفم قائلا: “زيِّن منزلك بالتواضع والاتّضاع بِممارسة الصلاة.
واجعل منزلك متألِّقًا بنور العدل؛ وزخرِف جدرانه بالأعمال الصالحة كما بِطَلاء الذهب الخالص، وبدلاً من الحيطان والعسجد ضع الإيمان والشهامة ما فوق الطبيعيّة، واضعًا فوق كلّ شيء، في أعلى القمّة، الصلاة لتزيين المجمّع بأكمله. هكذا تُعدُّ للربّ مسكنًا لائقًا، هكذا تستقبله في بِلاطٍ رائع. وهو سوف يمنحك أن تتحوّل روحك إلى هيكل حضوره” (عظة 6 حول الصلاة: ب ج 64، 466).
أصدقائي الأعزّاء، لنحرص في مسيرة الصوم هذه على إدراك دعوة المسيح لنتبعه بشكلٍ أكثر تصميمًا وانسجامًا، مجدّدين نعمة معموديّتنا والتزاماتها، كي نتخلّى عن الإنسان القديم الذي فينا ونلبس المسيح، فنصل متجدّدين إلى الفصح، ويمكننا حينئذٍ أن نقول مع القدّيس بولس "فلستُ بعد أنا الحيّ، بل المسيح هو الحيّ فيَّ” (الرسالة إلى أهل غلاطية 2، 20). أتمنّى لكم جميعًا دربًا مجيدًا لكم في زمن صوم! شكرًا!