إخوتي وأخواتي الأعزّاء،
أودّ اليوم أن أقدِّم لكم شخصيّة قدّيس ملفان للكنيسة نُدين له بالكثير، لأنّه كان لاهوتيًّا أخلاقيًّا مُميَّزًا ومعلّم الحياة الروحيّة للجميع، وخاصّةً للأناس البسطاء. إنّه مؤلِّف كلمات وموسيقى إحدى التراتيل الميلاديّة الأكثر شعبيّة في إيطاليا وليس فقط: Tu scendi dalle stelle (أنتَ تنزل من النجوم).
وُلد ألفونسو ماريّا دي ليغووري عام 1696 لعائلةٍ نابوليتانيّة نبيلة وثريّة. بسبب صفاته الفكريّة المميّزة التي كان يتحلّى بها، فقد حصل عندما كان لا يزال في السادسة عشرة من عمره على شهادة في القانون المدنيّ والكنسيّ. وكان المحامي الأكثر براعةً في محكمة نابولي، حيث فاز على مدى ثماني سنوات بِكلّ الدعاوى التي دافع عنها. ومع ذلك، فقد كان الربّ يقودهُ في روحه العطشى لله والراغبة في الكمال لِيفهم أنّ الدعوة التي كان يدعوه إليها كانت مُختلفة. وبالفعل، ترك مهنته - ومعها الثروة والنجاح - في عام 1723، وهو مُستاءٌ من الفساد والظلم اللذين أفسدا بيئة المحكمة، وقرّر أن يصبح كاهنًا، رغم معارضة والده. كان له أساتذة مُمتازون، دفعوه لِدراسة الكتاب المقدّس، وتاريخ الكنيسة والتصوّف. واكتسب ثقافة لاهوتيّة واسعة، استفاد منها عندما بدأ، بعدها ببضع سنوات، عمله كَكاتِب. سيمَ كاهنًا في عام 1726، وارتبط في ممارسة الخدمة بالجماعة الأبرشيّة للبعثات الرسوليّة. بدأ ألفونسو عمل التبشير والتعليم المسيحيّ بين الطبقات الأكثر تواضعًا في مجتمع نابولي، حيث كان يحب أن يبشِّرهم، ويُثقِّفهم حول الحقائق الأساسيّة للإيمان.
أودّ اليوم أن أقدِّم لكم شخصيّة قدّيس ملفان للكنيسة نُدين له بالكثير، لأنّه كان لاهوتيًّا أخلاقيًّا مُميَّزًا ومعلّم الحياة الروحيّة للجميع، وخاصّةً للأناس البسطاء. إنّه مؤلِّف كلمات وموسيقى إحدى التراتيل الميلاديّة الأكثر شعبيّة في إيطاليا وليس فقط: Tu scendi dalle stelle (أنتَ تنزل من النجوم).
وُلد ألفونسو ماريّا دي ليغووري عام 1696 لعائلةٍ نابوليتانيّة نبيلة وثريّة. بسبب صفاته الفكريّة المميّزة التي كان يتحلّى بها، فقد حصل عندما كان لا يزال في السادسة عشرة من عمره على شهادة في القانون المدنيّ والكنسيّ. وكان المحامي الأكثر براعةً في محكمة نابولي، حيث فاز على مدى ثماني سنوات بِكلّ الدعاوى التي دافع عنها. ومع ذلك، فقد كان الربّ يقودهُ في روحه العطشى لله والراغبة في الكمال لِيفهم أنّ الدعوة التي كان يدعوه إليها كانت مُختلفة. وبالفعل، ترك مهنته - ومعها الثروة والنجاح - في عام 1723، وهو مُستاءٌ من الفساد والظلم اللذين أفسدا بيئة المحكمة، وقرّر أن يصبح كاهنًا، رغم معارضة والده. كان له أساتذة مُمتازون، دفعوه لِدراسة الكتاب المقدّس، وتاريخ الكنيسة والتصوّف. واكتسب ثقافة لاهوتيّة واسعة، استفاد منها عندما بدأ، بعدها ببضع سنوات، عمله كَكاتِب. سيمَ كاهنًا في عام 1726، وارتبط في ممارسة الخدمة بالجماعة الأبرشيّة للبعثات الرسوليّة. بدأ ألفونسو عمل التبشير والتعليم المسيحيّ بين الطبقات الأكثر تواضعًا في مجتمع نابولي، حيث كان يحب أن يبشِّرهم، ويُثقِّفهم حول الحقائق الأساسيّة للإيمان.
وكان عددٌ غير قليل من هؤلاء الأشخاص الفقراء والمتواضعين، الذين كان يتوجّه إليهم، منغمسين في كثير من الأحيان في الرذائل ويقومون بأعمال إجراميّة. فكان يعلّمهم بِصبر الصلاة، ويشجَِّعهم على تحسين طريقة عيشهم. وحصل ألفونسو على نتائج ممتازة، ففي الأحياء الأكثر بؤسًا في المدينة كانت تتكاثر مجموعات الأشخاص الذين كانوا يلتقون مساءً في المنازل الخاصّة والدكاكين للصلاة والتأمّل بِكلمة الله، بِتوجيه من بعض أساتذة التعليم المسيحيّ الذين درّبهم ألفونسو وغيره من الكهنة الذين كانوا يزورون بانتظام مجموعات المؤمنين هذه. وعندما عُقدت هذه الاجتماعات، برغبة من رئيس أساقفة نابولي، في كنائس المدينة، اتّخذت اسم cappelle serotine، أي كنائس المساء. وكانت مصدرًا حقيقيًّا وفِعليًّا للتربية الأخلاقيّة، وإعادة التأهيل الاجتماعيّ، والعون المُتبادل بين الفقراء: فاختفت السرقات والمُنازلات والبغاء تقريبًا. وإن كان السياق الاجتماعيّ والدينيّ لحقبة القدّيس ألفونسو مختلفًا جدًّا عن سياق عصرنا، فإنّ "كنائس المساء" تبدو نموذجَ نشاط تبشيريّ يمكننا أن نستلهم منه اليوم أيضًا من أجل "تبشير جديد"، لا سيّما لدى الناس الأكثر فقرًا، ولبناء تعايش إنسانيّ أكثر عدلاً وأخوّةً وتضامنًا. فقد عُهِدَ للكهنة بمهمّة الخدمة الروحيّة، فيما يمكن للعلمانيّين المُنشئين جيّدًا أن يكونوا مسيحيّين ناشطين، وخميرة إنجيليّة أصيلة في صلب المجتمع.
وبعد أن فكّر في الرحيل من أجل تبشير الشعوب الوثنيّة بالإنجيل، دخل ألفونسو، وهو في سنّه الخامسة والثلاثين، في تواصل مع المزارعين والرُعاة في المناطق الداخليّة من مملكة نابولي، فتأثّر بِجهلهم لأمور الدين وحالة الإهمال التي كانوا يعانون منها، وقرَّر مغادرة العاصمة ليكرِّس نفسه لِهؤلاء الناس، إذ كانوا فقراء روحيًّا ومادّيًّا. وأسّس عام 1732 رهبنة الفادي الأقدس، التي وضعها تحت وصاية الأسقف تومّازو فالكويا، والتي أصبح هو نفسه فيما بعد مسؤولها الأعلى. كان رجال الدين هؤلاء، وبتوجيه من ألفونسو، مُبشّرين مُتجوّلين أصيلين، وكانوا يصلون إلى القرى النائية للحثّ على التوبة والمثابرة في الحياة المسيحيّة، خاصّةً من خلال الصلاة . واليوم أيضًا، يُواصل رهبان الفادي المنتشرون في العديد من بلدان العالم، مهمّة التبشير بالإنجيل هذه بِأشكال جديدة من الخدمة الرسوليّة. أفكِّر بهم بامتنان، وأحثّهم على أن يكونوا دائمًا أوفياء لمِثال مؤسِّسهم القدّيس.
وإذ كان ألفونسو محطّ تقدير لطيبته وحميّته الرعويّة، عُيِّنَ عام 1762 أسقفًا على سانتا أغاتا القوط، وهي خدمةٌ تركها في عام 1775، بإذنٍ من البابا بيّوس السادس، بعد أن عانى من الأمراض. وقد هتف الحبر الأعظم نفسه، في عام 1787، عندما علم بِنبأ وفاته بعد كثير من المُعاناة: “لقد كان قدّيسًا!”. ولم يكن على خطأ، فقد أُعلنت قداسة ألفونسو في عام 1839، وفي عام 1871 أُعلن ملفانًا للكنيسة. هذا اللقب يلائمه لأسباب عديدة. قبل كلّ شيء، لأنّه اقترح تعليمًا لاهوتيًّا أخلاقيًّا غنيًّا، يُعبِّر بشكلٍ مناسب عن العقيدة الكاثوليكيّة، لِدرجة أنّ البابا بيوس الثاني عشر أعلنه “شفيع جميع المُعرِّفين والأخلاقيّين”. ففي زمنه، كان قد انتشر تفسيرٌ مُتشدِّد للغاية في الحياة الأخلاقيّة، وذلك أيضًا بسبب العقليّة الجانسينيّة التي كانت، وبدلاً من أن تُنمّي الثقة والرجاء برحمة الله، تُثير الخوف وتقدِّم وجهًا مُتجهِّمًا وقاسيًا لله، بعيدًا جدًّا عمّا كشف لنا عنه يسوع. ويعرض القدّيس ألفونسو، خاصّةً في عمله الرئيسيّ الذي يحمل عنوان “اللاهوت الأخلاقيّ”، خُلاصة مُتوازنة ومُقنعة بين متطلّبات شريعة الله، المحفورة في قلوبنا، والتي كشف عنها المسيح بالكامل وفسّرتها الكنيسة بِجدارة، وديناميّات ضمير الإنسان وحريّته، التي تسمح بنضوج وتحقيق الشخص من خلال الانضمام إلى الحقّ والخير. وأوصى ألفونسو رُعاة النفوس والمُعرِّفين أن يكونوا أوفياء لتعاليم العقيدة الأخلاقيّة الكاثوليكيّة، آخذين على عاتقهم في الوقت نفسه، سلوكًا رحيمًا مُتفهِّمًا وعذبًا كي يشعر التائبون بأنّ هناك مَن يرافقهم ويسندهم ويشجّعهم في مسيرة إيمانهم وحياتهم المسيحيّة. لم يكن القدّيس ألفونسو يتعب أبدًا من ترداد أنّ الكهنة هم علامة مرئيّة لِرحمة الله اللامتناهية، الذي يغفر ويُنير عقل الخاطىء وقلبه كي يتوب ويغيِّر حياته. في عصرنا هذا، الذي توجد فيه علامات واضحة على فقدان الوعي الأخلاقيّ - ويجب الاعتراف بهذا – وعلى نوع من استخفاف بسرّ الاعتراف، لا يزال تعليم القدّيس ألفونسو آنيًّا جدًّا.
وبالإضافة إلى أعمال اللاهوت، ألّف القدّيس ألفونسو العديد من الكتابات الأُخرى، هدفها تنشئة الشعب الدينيّة. أسلوبها بسيط ومُمتع. وإذ قُرِأت وتُرجِمت إلى عدّة لغات، ساهمت أعمال القدّيس ألفونسو في صوغ الروحانيّة الشعبيّة في القرنَين الأخيرَين. بعضها نصوصٌ يُمكن قراءتها بفائدة كبيرة في عصرنا أيضًا، مثل "الحِكَم الخالدة"، "أمجاد مريم"، "ممارسة محبّة يسوع المسيح"، وهذا الأخير عملٌ يشكِّل خلاصة تفكيره وعمله الأروع. فهو يشدِّد كثيرًا على ضرورة الصلاة، التي تسمح بالانفتاح على النعمة الإلهيّة للقيام يوميًّا بمشيئة الله وبلوغ قداسة الذات. وهو يكتب بخصوص الصلاة: “لا ينكر الله على أحد نعمة الصلاة، التي نحصل بها على المساعدة للتغلّب على كلّ شهوة وكلّ تجربة. وأنا أقول، وأُردِّد مرارًا وتكرارًا على الدوام، طالما أنا على قيد الحياة، إنّ خلاصنا كلّه يكمن في الصلاة”. ومن هنا العبارة الشهيرة الخاصّة بالقدّيس ألفونسو: “مَن صلّي تخلََّص” (Del gran mezzo della preghiera e opuscoli affini. Opere ascetiche II, Roma 1962, p. 171) (من وسيلة الصلاة العظيمة وكتيّبات مُشابهة. أعمال زهديّة). يخطر ببالي في هذا الصدد، إرشاد سلفي المُكرَّم خادم الله يوحنّا بولس الثاني: "يجب أن تصبح جماعاتنا المسيحية «مدارس صلاة حقيقيّة»،... لذا يجب أن تكون التربية على الصلاة، إلى حدّ ما، موضوعًا حاسمًا في كلّ برنامج رعويّ” (رسالة الحبر الأعظم الرسوليّة. نحو ألفيّة جديدة، 33، 34).
من بين أشكال الصلاة التي نصح بها القدّيس ألفونسو بِحماس تبرُز الزيارة إلى القربان المقدّس أو، كما نقول اليوم، السجود، القصير أو الطويل الأمد، الفرديّ أو الجماعيّ، أمام القربان المقدّس. يكتب ألفونسو “بالطبع إنّ السجود ليسوع الافخارستيّا، من بين جميع العبادات، هو الأوّل بعد الأسرار المقدّسة، والأعزّ على قلب الله والأكثر إفادة بالنسبة لنا... آه، ما ألذّ المثول أمام المذبح بإيمان... وعرض احتياجاتنا عليه، كأنّه من صديق لِصديق آخر توثّق بملء!” (زيارات للقربان الأقدس ومريم العذراء كليّة القداسة لكلّ يوم من أيّام الشهر. المقدّمة). إنّ الروحانيّة الألفونسيّة هي في الواقع كريستولوجيّة بشكلٍ بارز، وتتمحور حول المسيح وإنجيله. وغالبًا ما يكون التأمّل في سرّ التجسّد وآلام الربّ موضوع عظاته. ففي هذه الأحداث، في الواقع، يتمّ تقديم الفداء لجميع البشر "بِشكلٍ وافِر". وكونها كريستولوجيّة تحديدًا، فإنّ العبادة الألفونسيّة هي أيضًا مريميّة بِشكلٍ رائع. ففي تكريمه الكبير لِمريم، يوضح دورها في تاريخ الخلاص: فهي مُشارِكة في الفداء ووسيطة النعمة وأمّ ومحامية وملكة. علاوةً على ذلك، يؤكِّد ألفونسو أنّ التكريم المريميّ سوف يعزّزنا كثيرًا في لحظة موتنا. لقد كان ألفونسو مُقتنعًا أنّ التأمّل بِمصيرنا الأبديّ، ودعوتنا للمشاركة إلى الأبد في طوباويّة الله، كذلك بشأن إمكانية الهلاك المأساويّة، تُساهم في العيش باطمئنان والتزام، ومواجهة واقع الموت مُحافظين دومًا على الثقة الكاملة بِطيبة الله.
إنّ القدّيس ألفونسو ماريّا دي ليغووري مِثال للراعي المتّقد، الذي امتلك النفوس عن طريق الوعظ بالإنجيل ومنح الأسرار المقدّسة، يُضاف إليهما طريقة تصرّف مطبوعة بِطيبة عذبة ووديعة، تنشأ من علاقة عميقة مع الله، إذ هو الطيبة اللامُتناهية. كانت لديه رؤيا متفائلة بواقعيتها لِموارد الخير التي يهبها الربّ لِكلّ إنسان وقد أعطى أهميّة للعواطف ومشاعر القلب، وكذلك للعقل، كي نتمكّن من محبّة الله والقريب.
وفي الختام ، أودّ أن أُذكِّر بأنّ قدّيسنا، مثل القدّيس فرنسوا دي سال – الذي تكلّمتُ عنهُ قبل بضعة أسابيع - يصرّ على القول إنّ القداسة هي في متناول كلّ مسيحيّ: “رجل الدين كرجل دين، العلمانيّ كعلمانيّ، الكاهن ككاهن، الزوج كزوج، التاجر كتاجر، الجنديّ كجنديّ، وهكذا بالحديث عن أيّ وضعٍ آخر” (ممارسة محبّة يسوع المسيح. أعمال زُهديّة 1، روما 1933، ص. 79). لِنشكر الربّ الذي يُظهر بعنايته الإلهيّة قدّيسين وملافنة في أماكن وأزمنة مختلفة، يتحدّثون بِنفس اللغة ليدعونا إلى النموّ بِالإيمان وعيش مسيحيتنا بمحبّة وفرح في الأعمال البسيطة كلّ يوم، كي نسير في درب القداسة، في الدرب نحو الله ونحو الفرح الحقيقيّ. وشكرًا.
وبعد أن فكّر في الرحيل من أجل تبشير الشعوب الوثنيّة بالإنجيل، دخل ألفونسو، وهو في سنّه الخامسة والثلاثين، في تواصل مع المزارعين والرُعاة في المناطق الداخليّة من مملكة نابولي، فتأثّر بِجهلهم لأمور الدين وحالة الإهمال التي كانوا يعانون منها، وقرَّر مغادرة العاصمة ليكرِّس نفسه لِهؤلاء الناس، إذ كانوا فقراء روحيًّا ومادّيًّا. وأسّس عام 1732 رهبنة الفادي الأقدس، التي وضعها تحت وصاية الأسقف تومّازو فالكويا، والتي أصبح هو نفسه فيما بعد مسؤولها الأعلى. كان رجال الدين هؤلاء، وبتوجيه من ألفونسو، مُبشّرين مُتجوّلين أصيلين، وكانوا يصلون إلى القرى النائية للحثّ على التوبة والمثابرة في الحياة المسيحيّة، خاصّةً من خلال الصلاة . واليوم أيضًا، يُواصل رهبان الفادي المنتشرون في العديد من بلدان العالم، مهمّة التبشير بالإنجيل هذه بِأشكال جديدة من الخدمة الرسوليّة. أفكِّر بهم بامتنان، وأحثّهم على أن يكونوا دائمًا أوفياء لمِثال مؤسِّسهم القدّيس.
وإذ كان ألفونسو محطّ تقدير لطيبته وحميّته الرعويّة، عُيِّنَ عام 1762 أسقفًا على سانتا أغاتا القوط، وهي خدمةٌ تركها في عام 1775، بإذنٍ من البابا بيّوس السادس، بعد أن عانى من الأمراض. وقد هتف الحبر الأعظم نفسه، في عام 1787، عندما علم بِنبأ وفاته بعد كثير من المُعاناة: “لقد كان قدّيسًا!”. ولم يكن على خطأ، فقد أُعلنت قداسة ألفونسو في عام 1839، وفي عام 1871 أُعلن ملفانًا للكنيسة. هذا اللقب يلائمه لأسباب عديدة. قبل كلّ شيء، لأنّه اقترح تعليمًا لاهوتيًّا أخلاقيًّا غنيًّا، يُعبِّر بشكلٍ مناسب عن العقيدة الكاثوليكيّة، لِدرجة أنّ البابا بيوس الثاني عشر أعلنه “شفيع جميع المُعرِّفين والأخلاقيّين”. ففي زمنه، كان قد انتشر تفسيرٌ مُتشدِّد للغاية في الحياة الأخلاقيّة، وذلك أيضًا بسبب العقليّة الجانسينيّة التي كانت، وبدلاً من أن تُنمّي الثقة والرجاء برحمة الله، تُثير الخوف وتقدِّم وجهًا مُتجهِّمًا وقاسيًا لله، بعيدًا جدًّا عمّا كشف لنا عنه يسوع. ويعرض القدّيس ألفونسو، خاصّةً في عمله الرئيسيّ الذي يحمل عنوان “اللاهوت الأخلاقيّ”، خُلاصة مُتوازنة ومُقنعة بين متطلّبات شريعة الله، المحفورة في قلوبنا، والتي كشف عنها المسيح بالكامل وفسّرتها الكنيسة بِجدارة، وديناميّات ضمير الإنسان وحريّته، التي تسمح بنضوج وتحقيق الشخص من خلال الانضمام إلى الحقّ والخير. وأوصى ألفونسو رُعاة النفوس والمُعرِّفين أن يكونوا أوفياء لتعاليم العقيدة الأخلاقيّة الكاثوليكيّة، آخذين على عاتقهم في الوقت نفسه، سلوكًا رحيمًا مُتفهِّمًا وعذبًا كي يشعر التائبون بأنّ هناك مَن يرافقهم ويسندهم ويشجّعهم في مسيرة إيمانهم وحياتهم المسيحيّة. لم يكن القدّيس ألفونسو يتعب أبدًا من ترداد أنّ الكهنة هم علامة مرئيّة لِرحمة الله اللامتناهية، الذي يغفر ويُنير عقل الخاطىء وقلبه كي يتوب ويغيِّر حياته. في عصرنا هذا، الذي توجد فيه علامات واضحة على فقدان الوعي الأخلاقيّ - ويجب الاعتراف بهذا – وعلى نوع من استخفاف بسرّ الاعتراف، لا يزال تعليم القدّيس ألفونسو آنيًّا جدًّا.
وبالإضافة إلى أعمال اللاهوت، ألّف القدّيس ألفونسو العديد من الكتابات الأُخرى، هدفها تنشئة الشعب الدينيّة. أسلوبها بسيط ومُمتع. وإذ قُرِأت وتُرجِمت إلى عدّة لغات، ساهمت أعمال القدّيس ألفونسو في صوغ الروحانيّة الشعبيّة في القرنَين الأخيرَين. بعضها نصوصٌ يُمكن قراءتها بفائدة كبيرة في عصرنا أيضًا، مثل "الحِكَم الخالدة"، "أمجاد مريم"، "ممارسة محبّة يسوع المسيح"، وهذا الأخير عملٌ يشكِّل خلاصة تفكيره وعمله الأروع. فهو يشدِّد كثيرًا على ضرورة الصلاة، التي تسمح بالانفتاح على النعمة الإلهيّة للقيام يوميًّا بمشيئة الله وبلوغ قداسة الذات. وهو يكتب بخصوص الصلاة: “لا ينكر الله على أحد نعمة الصلاة، التي نحصل بها على المساعدة للتغلّب على كلّ شهوة وكلّ تجربة. وأنا أقول، وأُردِّد مرارًا وتكرارًا على الدوام، طالما أنا على قيد الحياة، إنّ خلاصنا كلّه يكمن في الصلاة”. ومن هنا العبارة الشهيرة الخاصّة بالقدّيس ألفونسو: “مَن صلّي تخلََّص” (Del gran mezzo della preghiera e opuscoli affini. Opere ascetiche II, Roma 1962, p. 171) (من وسيلة الصلاة العظيمة وكتيّبات مُشابهة. أعمال زهديّة). يخطر ببالي في هذا الصدد، إرشاد سلفي المُكرَّم خادم الله يوحنّا بولس الثاني: "يجب أن تصبح جماعاتنا المسيحية «مدارس صلاة حقيقيّة»،... لذا يجب أن تكون التربية على الصلاة، إلى حدّ ما، موضوعًا حاسمًا في كلّ برنامج رعويّ” (رسالة الحبر الأعظم الرسوليّة. نحو ألفيّة جديدة، 33، 34).
من بين أشكال الصلاة التي نصح بها القدّيس ألفونسو بِحماس تبرُز الزيارة إلى القربان المقدّس أو، كما نقول اليوم، السجود، القصير أو الطويل الأمد، الفرديّ أو الجماعيّ، أمام القربان المقدّس. يكتب ألفونسو “بالطبع إنّ السجود ليسوع الافخارستيّا، من بين جميع العبادات، هو الأوّل بعد الأسرار المقدّسة، والأعزّ على قلب الله والأكثر إفادة بالنسبة لنا... آه، ما ألذّ المثول أمام المذبح بإيمان... وعرض احتياجاتنا عليه، كأنّه من صديق لِصديق آخر توثّق بملء!” (زيارات للقربان الأقدس ومريم العذراء كليّة القداسة لكلّ يوم من أيّام الشهر. المقدّمة). إنّ الروحانيّة الألفونسيّة هي في الواقع كريستولوجيّة بشكلٍ بارز، وتتمحور حول المسيح وإنجيله. وغالبًا ما يكون التأمّل في سرّ التجسّد وآلام الربّ موضوع عظاته. ففي هذه الأحداث، في الواقع، يتمّ تقديم الفداء لجميع البشر "بِشكلٍ وافِر". وكونها كريستولوجيّة تحديدًا، فإنّ العبادة الألفونسيّة هي أيضًا مريميّة بِشكلٍ رائع. ففي تكريمه الكبير لِمريم، يوضح دورها في تاريخ الخلاص: فهي مُشارِكة في الفداء ووسيطة النعمة وأمّ ومحامية وملكة. علاوةً على ذلك، يؤكِّد ألفونسو أنّ التكريم المريميّ سوف يعزّزنا كثيرًا في لحظة موتنا. لقد كان ألفونسو مُقتنعًا أنّ التأمّل بِمصيرنا الأبديّ، ودعوتنا للمشاركة إلى الأبد في طوباويّة الله، كذلك بشأن إمكانية الهلاك المأساويّة، تُساهم في العيش باطمئنان والتزام، ومواجهة واقع الموت مُحافظين دومًا على الثقة الكاملة بِطيبة الله.
إنّ القدّيس ألفونسو ماريّا دي ليغووري مِثال للراعي المتّقد، الذي امتلك النفوس عن طريق الوعظ بالإنجيل ومنح الأسرار المقدّسة، يُضاف إليهما طريقة تصرّف مطبوعة بِطيبة عذبة ووديعة، تنشأ من علاقة عميقة مع الله، إذ هو الطيبة اللامُتناهية. كانت لديه رؤيا متفائلة بواقعيتها لِموارد الخير التي يهبها الربّ لِكلّ إنسان وقد أعطى أهميّة للعواطف ومشاعر القلب، وكذلك للعقل، كي نتمكّن من محبّة الله والقريب.
وفي الختام ، أودّ أن أُذكِّر بأنّ قدّيسنا، مثل القدّيس فرنسوا دي سال – الذي تكلّمتُ عنهُ قبل بضعة أسابيع - يصرّ على القول إنّ القداسة هي في متناول كلّ مسيحيّ: “رجل الدين كرجل دين، العلمانيّ كعلمانيّ، الكاهن ككاهن، الزوج كزوج، التاجر كتاجر، الجنديّ كجنديّ، وهكذا بالحديث عن أيّ وضعٍ آخر” (ممارسة محبّة يسوع المسيح. أعمال زُهديّة 1، روما 1933، ص. 79). لِنشكر الربّ الذي يُظهر بعنايته الإلهيّة قدّيسين وملافنة في أماكن وأزمنة مختلفة، يتحدّثون بِنفس اللغة ليدعونا إلى النموّ بِالإيمان وعيش مسيحيتنا بمحبّة وفرح في الأعمال البسيطة كلّ يوم، كي نسير في درب القداسة، في الدرب نحو الله ونحو الفرح الحقيقيّ. وشكرًا.