إخوتي
وأخواتي الأعزّاء،
مع مرغريت من وانت (Oingt) ،التي أودّ أن أُحدِّثكمعنها اليوم، ندخل في روحانيّة رهبنة الشارتر، التي تستوحيها خُلاصة الإنجيلالتي عاشها القدّيس برونو واقترح العمل بها. نحن لا نعرف تاريخ ميلادالقديسة مرغريت ، رغم أنّ هناك من يحدّده حوالي العام 1240. كانت مرغريت منعائلة قويّة ونبيلة منذ أمد طويل في منطقة مدينة ليون، آل وانت. نعلم أنّأمّها أيضًا كان اسمها مرغريت، وأنّ لها شقيقين - جيسكار ولويس - وثلاثشقيقات: كاترين وإيزابيل وأنييس. ستلحق بها هذه الأخيرة إلى الدير، فيالشارتروز، ثم تخلفها كرئيسة للدير.
مع مرغريت من وانت (Oingt) ،التي أودّ أن أُحدِّثكمعنها اليوم، ندخل في روحانيّة رهبنة الشارتر، التي تستوحيها خُلاصة الإنجيلالتي عاشها القدّيس برونو واقترح العمل بها. نحن لا نعرف تاريخ ميلادالقديسة مرغريت ، رغم أنّ هناك من يحدّده حوالي العام 1240. كانت مرغريت منعائلة قويّة ونبيلة منذ أمد طويل في منطقة مدينة ليون، آل وانت. نعلم أنّأمّها أيضًا كان اسمها مرغريت، وأنّ لها شقيقين - جيسكار ولويس - وثلاثشقيقات: كاترين وإيزابيل وأنييس. ستلحق بها هذه الأخيرة إلى الدير، فيالشارتروز، ثم تخلفها كرئيسة للدير.
ليست
لدينا معلومات حول طفولتها، ولكن يمكننا منكتاباتها التخمين أنّها قضتها بِهدوء، في جوّ عائلي ملؤه
الحنان. فهيتُقيِّم الكثير من الصُوَر المتعلِّقة بالأسرةللتعبير عن محبّة للهاللامحدودة، مع إشارة
خاصّة إلى صُوَر الأب والأم. وتُصلّي في تأمّل لهاهكذا: “أيّها الربّ الجميل العذب، عندما أفكِّر بِالنعم
الخاصّة التيأعطتيتها لي بِعنايتك: قبل كلّ شيء، كيف حرستني منذ طفولتي،
وكيف أبعدتعنّي أخطار هذا العالم ودعوتني لأكرِّس نفسي لخدمتك
القدّوسة، وكيفأعدَدتَّ لي كلّ هذه الأشياء التي كنت بحاجة إليها لِلأكل
والشرب واللبسوالأحذية (وقمت بهذا) لِدرجة أنّه لم تبق لي فرصة في كلّ
هذه الأشياء إلاّللتفكير بِرحمتك الكبيرة” (مرغريت من وانت، كتابات روحية،
التأمّل الخامس، 100، Margherita d’Oingt, Scritti spirituali, Meditazione V,
100, Cinisello Balsamo, 1947 ص. 74)
نشعر، من خلال تأمّلاتها دومًا، أنّها دخلت إلىشارتروز دو بوليتان استجابةً لدعوة الله، تاركةً كلّ شيء ومتقبِّلةً نظامرهبنة الشارتر الصارم، كي تكون كليًّا للربّ، وتبقى دائمًا معه. فهي تكتب: “أيّها الربّ العذب، لقد تركت أبي وأمّي وإخوتي وجميع الأشياء التي في هذاالعالم من أجل محبّتك، لكنّ هذا قليل جدًّا، لأنّ ثروات هذا العالم ليستسوى أشواك واخزة؛ وكلّما كثرت ساء حظّ مالِكها. ولهذا يبدو لي أنّي ما تركتسوى البؤس والفقر، ولكنّك تعلم، أيّها الربّ العذب، أنّه لو امتلكتُ ألفعالم وأمكنني التصرّف بها كما يحلو لي، لكنت تركت كلّ شيء من أجل محبّتك؛وحتّى ولو أعطيتني كلّ ما تملك في السماء وعلى الأرض، لن أشعر بأنّي راضيةإلاّ عندما أحصل عليك، لأنّك أنت حياة نفسي، ليس لي ولا أريد أن يكون لي أبولا أمّ خارجًا عنك” (المرجع نفسه، التأمل الثاني، 32، ص. 59).
وعن حياتها في شارتروز أيضًا نملك القليل من المعلومات. نحن نعلم أنّه فيعام 1288 أصبحت الرئيسة الرابعة للدير، وقد حافظت على هذه الرتبة حتّىوفاتها، التي وقعت في 11 شباط/فبراير 1310. لا تبرز من كتاباتها، على أيّحال، تحوّلات مميّزة في دربها الروحيّ. فهي تدرك الحياة كلّها على أنّهادرب تطهير حتّى التشابه الكامل مع المسيح. المسيح هو “الكتاب” الذي يجب أنيُكتب، ويُحفَر يوميًّا في قلبنا وحياتنا، وخصوصًا فدائه الخلاصيّ. وفيمؤلّف Speculum، تُشدِّد مرغريت، في إشارة إلى نفسها تستخدم فيها صيغةالغائب، على أنّه بنعمة الربّ “قد حفرت في قلبها الحياةُ المقدّسة التيعاشها الله يسوع المسيح على الأرض، ومثالاته الصالحة وتعليمه الخيّر. لقدوضعت جيّدًا يسوع المسيح العذب في قلبها حتّى أنّه بدا لها وكأنّه حاضر وهويمسك كتابًا مُغلقًا في يده، ليُعلّمها” (المرجع نفسه،الفصل الأوّل، 2-3، ص.81). “في هذا الكتاب وجدَت حياة يسوع المسيح التي قضاها على الأرضمكتوبة، منذ ولادته حتّى صعوده إلى السماء” (المرجع نفسه، الفصل الأوّل، 12، ص. 83).
تنكبّ مرغريت يوميًّا، ومنذ الصباح، على دراسة هذاالكتاب. وبعد أن تنظر إليه جيّدًا، تبدأ بِالقراءة في كتاب ضميرها، ما يكشفزيف حياتها وأكاذيبها (راجع المرجع نفسه، الفصل الأول، 6-7، ص. 82)، وتكتبعن نفسها كي يستفيد الآخرين ولتثبيت نعمة حضور الله بشكلٍ أعمق في قلبها،وليصبح كلُّ يوم في حياتها مطبوعًا بالمقارنة مع كلمات يسوع وأفعاله، وكتابحياته هو. وهذا لكي تنطبع حياة المسيح في نفسها بشكلٍ ثابت وعميق، حتّىتستطيع أن ترى داخل الكتاب، أي حتّى التأمّل في سرّ الله الثالوث (راجعالمرجع نفسه، الفصل الثاني، 14-22؛ الفصل الثالث، 23 -40، ص. 84-90).
تقدِّم لنا مرغريت، من خلال كتاباتها، بعض الإضاءات حول روحانيّتها، فتسمحلنا بإدراك بعض ملامح شخصيّتها ومواهبها الإداريّة. إنّها امرأة واسعةالثقافة؛ تكتب عادةً باللاّتينيّة، لغة المثقّفين الكبار، ولكن أيضًابالفرنسيّة البروفنساليّة وهذا أيضًا نادر: وكتاباتها هي بالتالي أوّل مادُوّن بالبروفنساليّة على ما يُذكر. عاشت حياةً غنيّة بالتجارب الصوفيّة،التي وصفتها بِبساطة، تاركةً الآخرين يشعرون بِسرّ الله الذي يفوق الوصف،مشدّدةً على حدود العقل في إدراكه وعدم ملاءمة اللغة الإنسانيّة للتعبيرعنه. شخصيّتها مستقيمة بسيطة ومنفتحة، ذات طاقة عاطفيّة عذبة، واتّزان كبيروقدرة خارقة على التمييز، وهي قادرة على الدخول إلى أعماق الروحالإنسانيّة، لإدراك محدوديّتها وغموضها، ولكن أيضًا تطلّعاتها، وميل النفسنحو الله. تُظهر منحىً بارزًا للإدارة، جامعةً بين حياتها الروحيّة العميقةوخدمة الأخوات والجماعة. بهذا المعنى هناك فقرة ذات مغزى من رسالةٍ لهاإلى والدها: “والدي العذب، أخبركم بأنّني مشغولة للغاية نظرًا لاحتياجاتمسكننا، حتّى أنّ نفسي لا تستطيع الاهتمام بالأفكار الصالحة، فلديّ أعمالكثيرة أقوم بها ولا أعرف من أين أبدأ. نحن لم نحصد القمح في الشهر السابعمن السنة وقد دمّرت العاصفة مزارع كرومنا. إلى جانب ذلك، فإنّ كنيستنا فيحالة يُرثىلها ونحن مضطرّات لإعادة بنائها في جزء منها” (المرجع نفسه،رسائل، الفصل الثالث، 14، ص. 127).
وتُصوِّر راهبة من راهبات الشارتر شخصيّة مرغريت علىهذا الشكل: “من خلال عملها تكشف لنا عن شخصيّة رائعة، ذات ذكاء حادّ،موجَّهة نحو التمعّن، وفي الوقت نفسه تساعدها النعم الصوّفيّة: بِكلمةواحدة، إنّها امرأة قدّيسة وحكيمة تعرف أن تُعبِّر بنوعٍ من الفُكاهة عنعاطفة روحيّة بكاملها” (Una Monaca Certosina, Certosine, in Dizionario degli Istituti di Perfezione, Roma 1975, col. 777). في ديناميّة الحياةالصوّفيّة، تقيِّم مرغريت خبرة العواطف الطبيعيّة، التي تنقّيها النعمة،كوسيلة مفضّلة للفهم بِشكلٍ أعمق ومُواكبة العمل الإلهيّ بِحماسة واضطرامأكبر. يكمن السبب في أنّ الشخص الإنسانيّ مخلوق على صورة الله، ولهذا فهومدعوّ لبناء قصّة حبّ رائعة مع الله، مستسلمًا كليًّا لمبادرته.
لقد فتنها الله الثالوث، الله المحبّة الذي ظهر فيالمسيح، ومرغريت تعيش علاقة محبّة عميقة تجاه الربّ وتشهد، على نقيض ذلك،كفر الإنسان حتّى النذالة، حتّى مفارقة الصليب. وتؤكِّد على أنّ صليبالمسيح مُماثل لسرير الولادة. وتُقارن آلام يسوع على الصليب بآلام مخاضالأمّ. تكتب: “الأمّ التي حملتني في بطنها عانت كثيرًا، لتوليدي، لمدّة يومأو ليلة، لكنّك أنتَ، يا ربّي الجميل العذب، لم تتألّم من أجلي ليلةًواحدةً أو يومًا واحدًا فحسب، بل أكثر من ثلاثين عامًا [...]؛ كم عانيتَبِمرارة بسببي لِمدى حياتك! وعندما حان وقت الولادة، كان ألم المخاض مؤلمًاجدًّا حتّى أنّ عرقك المقدّس أصبح مثل قطرات الدم المتدفّقة في جميع أنحاءجسمك حتّى الأرض” (المرجع نفسه، التأمّل الأول، 33، ص. 59).
تتأمّل مرغريت، وهي تسترجع روايات فداء يسوع، بِهذهالآلام بإشفاق عميق: “لقد وُضعتَ على سرير الصليب القاسي، بحيثُ لا يمكنكالتحرّك أو الاستدارة أو تحريك أطرافك كما يفعل الرجل الذي يُعاني من ألمكبير، لأنّك مُدِّدت بكاملك وغُرزت فيك المسامير [...] و[...] تمزّقت كلّعضلاتك وعروقك. [...] لكنّ كلّ هذه الالآم [...] لم تكن لتكفيك، فأردت أنيُطعن جنبك بالحربة بقساوة جعلت جسمك الليِّن محروثًا وممزّقًا تمامًا،وكان دمك الثمين يتدفّق بشدّة حتّى شكّل دربًا واسعًا، كما لو كان جدولاًكبيرًا”. وفي إشارة إلى مريم تؤكِّد: “لا عجب أنّ السيف الذي قطَّع جسدكَقد انغرز أيضًا في قلب والدتك المجيدة إذ كانت تودّ كثيرًا لو تدعمك [...] لأنّ محبّتك كانت أسمى من أي محبّة أخرى” (المرجع نفسه، التأمّل الثاني، 36-39 . 42 ، ص. 60 وما يليها).
أيّها الأصدقاء الأعزّاء، تدعونا مرغريت من وانت إلىالتأمل يوميًّا بِحياة الألم والمحبّة التي عاشها يسوع وأمّه مريم. هنايكمن الأمل، ومعنى وجودنا. من التأمل بمحبّة المسيح لنا تتولّد القوّةوالفرح للإجابة بمحبّة مماثلة، واضعين حياتنا في خدمة الله والآخرين. معمرغريت نحن أيضًا نقول: “أيّها الربّ العذب، كلّ ما قمتَ به، من أجل محبّتيومحبّة البشريّة جمعاء، يستحثّني لأحبّك، لكنّ ذكرى فدائك الكليّ القداسةيعطي قوّة لا مثيل لها لقدرتي العاطفيّة على محبّتك. لهذا يبدو لي [...] أنّني وجدت ما رغبت به دومًا من كلّ قلبي: ألاّ أحبَّ إلاّك أنت أو فيك أومن أجل محبّتك" (المرجع نفسه، التأمّل الثاني، 46، ص. 62).
للوهلة الأولى، تبدو شخصيّة راهبة الشارتر هذه التيعاشت في القرون الوسطى، وكذلك كلّ حياتها وتفكيرها، بعيدة جدًّا عنّا، عنحياتنا، وطريقتنا في التفكير والعمل. لكنّنا إذا ما نظرنا إلى جوهر هذهالحياة، نرى أنّها تلمسنا نحن أيضًا، وينبغي أن تصبح جوهريّة في وجودنا نحنأيضًا. لقد سمعنا أنّ مرغريت اعتبرت الربّ كتابًا، وحدّقت بالربّ،واعتبرته مرآة يظهر فيها أيضًا ضميرها. ومن هذه المرآة دخل النور إلىروحها: لقد سمحت للكلمة، لحياة المسيح،بدخول كينونتها، فتحوَّلت بالتالي؛واستنار وعيها، ووجدت المعايير والنور وتنقَّت: هذا بالتحديد ما نحتاجإليه نحن أيضًا: لأن نجعل الكلمات، حياة المسيح ونوره، تدخل في ضميرنا كييستنير، ويفهم ما هو حقيقيّ وصالح، وما هو شرّير؛ فيستنير ضميرنا ويُنقّى. لا توجد القمامة فقط في طرق عديدة من طرق العالم. هناك أيضًا قمامة فيضمائرنا ونفوسنا. وحده نور الربّ، وقوّته ومحبّته، يُنقّينا ويُطهّرناويمنحنا الطريق المستقيم. لِنتبع إذًا القدّيسة مرغريت في هذه النظرة نحويسوع. لنقرأ في كتاب حياته، لندع أنفسنا تستنير وتُنقّى، لكي نتعلّم الحياةالحقّة. شكرًا
نشعر، من خلال تأمّلاتها دومًا، أنّها دخلت إلىشارتروز دو بوليتان استجابةً لدعوة الله، تاركةً كلّ شيء ومتقبِّلةً نظامرهبنة الشارتر الصارم، كي تكون كليًّا للربّ، وتبقى دائمًا معه. فهي تكتب: “أيّها الربّ العذب، لقد تركت أبي وأمّي وإخوتي وجميع الأشياء التي في هذاالعالم من أجل محبّتك، لكنّ هذا قليل جدًّا، لأنّ ثروات هذا العالم ليستسوى أشواك واخزة؛ وكلّما كثرت ساء حظّ مالِكها. ولهذا يبدو لي أنّي ما تركتسوى البؤس والفقر، ولكنّك تعلم، أيّها الربّ العذب، أنّه لو امتلكتُ ألفعالم وأمكنني التصرّف بها كما يحلو لي، لكنت تركت كلّ شيء من أجل محبّتك؛وحتّى ولو أعطيتني كلّ ما تملك في السماء وعلى الأرض، لن أشعر بأنّي راضيةإلاّ عندما أحصل عليك، لأنّك أنت حياة نفسي، ليس لي ولا أريد أن يكون لي أبولا أمّ خارجًا عنك” (المرجع نفسه، التأمل الثاني، 32، ص. 59).
وعن حياتها في شارتروز أيضًا نملك القليل من المعلومات. نحن نعلم أنّه فيعام 1288 أصبحت الرئيسة الرابعة للدير، وقد حافظت على هذه الرتبة حتّىوفاتها، التي وقعت في 11 شباط/فبراير 1310. لا تبرز من كتاباتها، على أيّحال، تحوّلات مميّزة في دربها الروحيّ. فهي تدرك الحياة كلّها على أنّهادرب تطهير حتّى التشابه الكامل مع المسيح. المسيح هو “الكتاب” الذي يجب أنيُكتب، ويُحفَر يوميًّا في قلبنا وحياتنا، وخصوصًا فدائه الخلاصيّ. وفيمؤلّف Speculum، تُشدِّد مرغريت، في إشارة إلى نفسها تستخدم فيها صيغةالغائب، على أنّه بنعمة الربّ “قد حفرت في قلبها الحياةُ المقدّسة التيعاشها الله يسوع المسيح على الأرض، ومثالاته الصالحة وتعليمه الخيّر. لقدوضعت جيّدًا يسوع المسيح العذب في قلبها حتّى أنّه بدا لها وكأنّه حاضر وهويمسك كتابًا مُغلقًا في يده، ليُعلّمها” (المرجع نفسه،الفصل الأوّل، 2-3، ص.81). “في هذا الكتاب وجدَت حياة يسوع المسيح التي قضاها على الأرضمكتوبة، منذ ولادته حتّى صعوده إلى السماء” (المرجع نفسه، الفصل الأوّل، 12، ص. 83).
تنكبّ مرغريت يوميًّا، ومنذ الصباح، على دراسة هذاالكتاب. وبعد أن تنظر إليه جيّدًا، تبدأ بِالقراءة في كتاب ضميرها، ما يكشفزيف حياتها وأكاذيبها (راجع المرجع نفسه، الفصل الأول، 6-7، ص. 82)، وتكتبعن نفسها كي يستفيد الآخرين ولتثبيت نعمة حضور الله بشكلٍ أعمق في قلبها،وليصبح كلُّ يوم في حياتها مطبوعًا بالمقارنة مع كلمات يسوع وأفعاله، وكتابحياته هو. وهذا لكي تنطبع حياة المسيح في نفسها بشكلٍ ثابت وعميق، حتّىتستطيع أن ترى داخل الكتاب، أي حتّى التأمّل في سرّ الله الثالوث (راجعالمرجع نفسه، الفصل الثاني، 14-22؛ الفصل الثالث، 23 -40، ص. 84-90).
تقدِّم لنا مرغريت، من خلال كتاباتها، بعض الإضاءات حول روحانيّتها، فتسمحلنا بإدراك بعض ملامح شخصيّتها ومواهبها الإداريّة. إنّها امرأة واسعةالثقافة؛ تكتب عادةً باللاّتينيّة، لغة المثقّفين الكبار، ولكن أيضًابالفرنسيّة البروفنساليّة وهذا أيضًا نادر: وكتاباتها هي بالتالي أوّل مادُوّن بالبروفنساليّة على ما يُذكر. عاشت حياةً غنيّة بالتجارب الصوفيّة،التي وصفتها بِبساطة، تاركةً الآخرين يشعرون بِسرّ الله الذي يفوق الوصف،مشدّدةً على حدود العقل في إدراكه وعدم ملاءمة اللغة الإنسانيّة للتعبيرعنه. شخصيّتها مستقيمة بسيطة ومنفتحة، ذات طاقة عاطفيّة عذبة، واتّزان كبيروقدرة خارقة على التمييز، وهي قادرة على الدخول إلى أعماق الروحالإنسانيّة، لإدراك محدوديّتها وغموضها، ولكن أيضًا تطلّعاتها، وميل النفسنحو الله. تُظهر منحىً بارزًا للإدارة، جامعةً بين حياتها الروحيّة العميقةوخدمة الأخوات والجماعة. بهذا المعنى هناك فقرة ذات مغزى من رسالةٍ لهاإلى والدها: “والدي العذب، أخبركم بأنّني مشغولة للغاية نظرًا لاحتياجاتمسكننا، حتّى أنّ نفسي لا تستطيع الاهتمام بالأفكار الصالحة، فلديّ أعمالكثيرة أقوم بها ولا أعرف من أين أبدأ. نحن لم نحصد القمح في الشهر السابعمن السنة وقد دمّرت العاصفة مزارع كرومنا. إلى جانب ذلك، فإنّ كنيستنا فيحالة يُرثىلها ونحن مضطرّات لإعادة بنائها في جزء منها” (المرجع نفسه،رسائل، الفصل الثالث، 14، ص. 127).
وتُصوِّر راهبة من راهبات الشارتر شخصيّة مرغريت علىهذا الشكل: “من خلال عملها تكشف لنا عن شخصيّة رائعة، ذات ذكاء حادّ،موجَّهة نحو التمعّن، وفي الوقت نفسه تساعدها النعم الصوّفيّة: بِكلمةواحدة، إنّها امرأة قدّيسة وحكيمة تعرف أن تُعبِّر بنوعٍ من الفُكاهة عنعاطفة روحيّة بكاملها” (Una Monaca Certosina, Certosine, in Dizionario degli Istituti di Perfezione, Roma 1975, col. 777). في ديناميّة الحياةالصوّفيّة، تقيِّم مرغريت خبرة العواطف الطبيعيّة، التي تنقّيها النعمة،كوسيلة مفضّلة للفهم بِشكلٍ أعمق ومُواكبة العمل الإلهيّ بِحماسة واضطرامأكبر. يكمن السبب في أنّ الشخص الإنسانيّ مخلوق على صورة الله، ولهذا فهومدعوّ لبناء قصّة حبّ رائعة مع الله، مستسلمًا كليًّا لمبادرته.
لقد فتنها الله الثالوث، الله المحبّة الذي ظهر فيالمسيح، ومرغريت تعيش علاقة محبّة عميقة تجاه الربّ وتشهد، على نقيض ذلك،كفر الإنسان حتّى النذالة، حتّى مفارقة الصليب. وتؤكِّد على أنّ صليبالمسيح مُماثل لسرير الولادة. وتُقارن آلام يسوع على الصليب بآلام مخاضالأمّ. تكتب: “الأمّ التي حملتني في بطنها عانت كثيرًا، لتوليدي، لمدّة يومأو ليلة، لكنّك أنتَ، يا ربّي الجميل العذب، لم تتألّم من أجلي ليلةًواحدةً أو يومًا واحدًا فحسب، بل أكثر من ثلاثين عامًا [...]؛ كم عانيتَبِمرارة بسببي لِمدى حياتك! وعندما حان وقت الولادة، كان ألم المخاض مؤلمًاجدًّا حتّى أنّ عرقك المقدّس أصبح مثل قطرات الدم المتدفّقة في جميع أنحاءجسمك حتّى الأرض” (المرجع نفسه، التأمّل الأول، 33، ص. 59).
تتأمّل مرغريت، وهي تسترجع روايات فداء يسوع، بِهذهالآلام بإشفاق عميق: “لقد وُضعتَ على سرير الصليب القاسي، بحيثُ لا يمكنكالتحرّك أو الاستدارة أو تحريك أطرافك كما يفعل الرجل الذي يُعاني من ألمكبير، لأنّك مُدِّدت بكاملك وغُرزت فيك المسامير [...] و[...] تمزّقت كلّعضلاتك وعروقك. [...] لكنّ كلّ هذه الالآم [...] لم تكن لتكفيك، فأردت أنيُطعن جنبك بالحربة بقساوة جعلت جسمك الليِّن محروثًا وممزّقًا تمامًا،وكان دمك الثمين يتدفّق بشدّة حتّى شكّل دربًا واسعًا، كما لو كان جدولاًكبيرًا”. وفي إشارة إلى مريم تؤكِّد: “لا عجب أنّ السيف الذي قطَّع جسدكَقد انغرز أيضًا في قلب والدتك المجيدة إذ كانت تودّ كثيرًا لو تدعمك [...] لأنّ محبّتك كانت أسمى من أي محبّة أخرى” (المرجع نفسه، التأمّل الثاني، 36-39 . 42 ، ص. 60 وما يليها).
أيّها الأصدقاء الأعزّاء، تدعونا مرغريت من وانت إلىالتأمل يوميًّا بِحياة الألم والمحبّة التي عاشها يسوع وأمّه مريم. هنايكمن الأمل، ومعنى وجودنا. من التأمل بمحبّة المسيح لنا تتولّد القوّةوالفرح للإجابة بمحبّة مماثلة، واضعين حياتنا في خدمة الله والآخرين. معمرغريت نحن أيضًا نقول: “أيّها الربّ العذب، كلّ ما قمتَ به، من أجل محبّتيومحبّة البشريّة جمعاء، يستحثّني لأحبّك، لكنّ ذكرى فدائك الكليّ القداسةيعطي قوّة لا مثيل لها لقدرتي العاطفيّة على محبّتك. لهذا يبدو لي [...] أنّني وجدت ما رغبت به دومًا من كلّ قلبي: ألاّ أحبَّ إلاّك أنت أو فيك أومن أجل محبّتك" (المرجع نفسه، التأمّل الثاني، 46، ص. 62).
للوهلة الأولى، تبدو شخصيّة راهبة الشارتر هذه التيعاشت في القرون الوسطى، وكذلك كلّ حياتها وتفكيرها، بعيدة جدًّا عنّا، عنحياتنا، وطريقتنا في التفكير والعمل. لكنّنا إذا ما نظرنا إلى جوهر هذهالحياة، نرى أنّها تلمسنا نحن أيضًا، وينبغي أن تصبح جوهريّة في وجودنا نحنأيضًا. لقد سمعنا أنّ مرغريت اعتبرت الربّ كتابًا، وحدّقت بالربّ،واعتبرته مرآة يظهر فيها أيضًا ضميرها. ومن هذه المرآة دخل النور إلىروحها: لقد سمحت للكلمة، لحياة المسيح،بدخول كينونتها، فتحوَّلت بالتالي؛واستنار وعيها، ووجدت المعايير والنور وتنقَّت: هذا بالتحديد ما نحتاجإليه نحن أيضًا: لأن نجعل الكلمات، حياة المسيح ونوره، تدخل في ضميرنا كييستنير، ويفهم ما هو حقيقيّ وصالح، وما هو شرّير؛ فيستنير ضميرنا ويُنقّى. لا توجد القمامة فقط في طرق عديدة من طرق العالم. هناك أيضًا قمامة فيضمائرنا ونفوسنا. وحده نور الربّ، وقوّته ومحبّته، يُنقّينا ويُطهّرناويمنحنا الطريق المستقيم. لِنتبع إذًا القدّيسة مرغريت في هذه النظرة نحويسوع. لنقرأ في كتاب حياته، لندع أنفسنا تستنير وتُنقّى، لكي نتعلّم الحياةالحقّة. شكرًا