إخوتي وأخواتي الأعزّاء،
أودّ اليوم أن أحدِّثكم عن جان دارك، وهي قدّيسة شابّة من أواخر العصور الوسطى، ماتت في التاسعة عشرة من عمرها، عام 1431. هذه القدّيسة الفرنسيّة، التي ذكرها التعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة مرارًا، تشبه كثيرًا القدّيسة كاترينا من سيينا، شفيعة إيطاليا وأوروبّا، التي تحدّثتُ عنها في تعليم ليس بِبعيد. فهما شابّتان من الشعب، علمانيّتان ومكرّستان للعذريّة؛ وصوفيّتان جاهدتان، ليس داخل دير، بل في خضمّ وقائع الكنيسة والعالم الأكثر دراميّة في زمانهما. إنّهما ربّما الشخصيّتان الأكثر تمييزًا لتلك "النساء القويّات"، اللواتي حملن نور الإنجيل العظيم بلا خوف، في نهاية العصور الوسطى، إلى أحداث التاريخ المعقّدة. يمكننا أن نضعهما إلى جانب النساء القدّيسات اللواتي بقين في الجلجلة، بالقرب من يسوع المصلوب ومريم أمّه، في حين كان الرُسُل قد فرّوا، وكان بطرس نفسه قد أنكره ثلاث مرّات. كانت الكنيسة تعيش في تلك الحقبة أزمة عميقة بسبب الانشقاق الكبير في الغرب، الذي استمرّ ما يقرب من 40 عامًا. عندما توفّيت كاترينا من سيينا عام 1380، كان هناك بابا و بابا غير شرعيّ؛ عندما ولدت جانّ عام 1412، كان هناك بابا وبابوان غير شرعيّين. بالإضافة إلى هذا الانقسام داخل الكنيسة، كانت هناك حروب الأشقّاء بين الشعوب المسيحيّة في أوروبّا، وكانت أكثَرها دراميّة "حربُ المئة عام" بين فرنسا وانكلترا.
أودّ اليوم أن أحدِّثكم عن جان دارك، وهي قدّيسة شابّة من أواخر العصور الوسطى، ماتت في التاسعة عشرة من عمرها، عام 1431. هذه القدّيسة الفرنسيّة، التي ذكرها التعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة مرارًا، تشبه كثيرًا القدّيسة كاترينا من سيينا، شفيعة إيطاليا وأوروبّا، التي تحدّثتُ عنها في تعليم ليس بِبعيد. فهما شابّتان من الشعب، علمانيّتان ومكرّستان للعذريّة؛ وصوفيّتان جاهدتان، ليس داخل دير، بل في خضمّ وقائع الكنيسة والعالم الأكثر دراميّة في زمانهما. إنّهما ربّما الشخصيّتان الأكثر تمييزًا لتلك "النساء القويّات"، اللواتي حملن نور الإنجيل العظيم بلا خوف، في نهاية العصور الوسطى، إلى أحداث التاريخ المعقّدة. يمكننا أن نضعهما إلى جانب النساء القدّيسات اللواتي بقين في الجلجلة، بالقرب من يسوع المصلوب ومريم أمّه، في حين كان الرُسُل قد فرّوا، وكان بطرس نفسه قد أنكره ثلاث مرّات. كانت الكنيسة تعيش في تلك الحقبة أزمة عميقة بسبب الانشقاق الكبير في الغرب، الذي استمرّ ما يقرب من 40 عامًا. عندما توفّيت كاترينا من سيينا عام 1380، كان هناك بابا و بابا غير شرعيّ؛ عندما ولدت جانّ عام 1412، كان هناك بابا وبابوان غير شرعيّين. بالإضافة إلى هذا الانقسام داخل الكنيسة، كانت هناك حروب الأشقّاء بين الشعوب المسيحيّة في أوروبّا، وكانت أكثَرها دراميّة "حربُ المئة عام" بين فرنسا وانكلترا.
لم تكن جان دارك تعرف القراءة ولا الكتابة، ولكن يُمكن أن نعرفها في أعماق روحها بفضل مصدرين لهما قيمة تاريخيّة كبيرة: المحاكمتان اللتان تخصّها. الأولى، "محاكمة الإدانة" (PCon)، تحتوي على نسخة من التحقيقات الطويلة والعديدة مع جانّ خلال الأشهر الأخيرة من حياتها (شباط/فبراير- أيار/مايو 1431)، وتورد كلمات القدّيسة نفسها. والثانية هي "محاكمة بطلان الإدانة"، أو "إعادة الاعتبار" (PNul)، وتتضمّن شهادات نحو 120 شاهد عيان لِجميع حقبات حياتها (راجع Procès de Condamnation de Jeanne d'Arc محاكمة إدانة جان دارك، 3 مجلّدات. و Procès en Nullité de la Condamnation de Jeanne d'Arc محاكمة بطلان إدانة جان دارك، 5 مجلّدات، دار نشر Klincksieck، باريس 1960-1989).
ولدت جان في دومريمي، وهي قرية صغيرة تقع على الحدود بين فرنسا و اللورين. وكان والداها مُزارعَين ميسورَين، يعرفهما الجميع كمسيحيَّين ممتازَين. تلقّت على أيديهما تربية دينيّة جيّدة، مع تأثير كبير من روحانيّة "اسم يسوع"، التي علّمها القدّيس برناردينوس من سيينا وانتشرت في أوروبّا بواسطة الرهبان الفرنسيسكان. وكان يُضاف دومًا إلى اسم يسوع اسمُ مريم، لذا تتركَّز روحانيّة جان بعمق على المسيح ومريم ، على خلفيّة التديّن الشعبي. وأظهرت منذ طفولتها محبّة كبيرة ورأفة تجاه الفقراء والمرضى وجميع الذين يُعانون، في سياق الحرب الدراميّ.
من كلماتها هي نعلم أنّ حياة جانّ الدينيّة نضجت كخبرة صوفيّة منذ سنّها الثالث عشر (PCon، ص 47-48). فمن خلال “صوت” رئيس الملائكة مار ميخائيل، شعرت جانّ بأنّ الله يدعوها لتقوية حياتها المسيحيّة، وكذلك للالتزام شخصيًّا بِتحرير شعبها. وكان جوابها الفوريّ، و “والنَعَم الذي نطقت به”، نذرَ العُذريّة، مع التزام جديد بالحياة المكرّسة والصلاة: المشاركة اليوميّة في القدّاس، الاعترافات والمناولات المتكرِّرة، أوقات طويلة في الصلاة الصامتة أمام المصلوب أو أمام صورة السيّدة العذراء. أصبح تعاطف والتزام الشابّة الريفيّة الفرنسيّة تجاه معاناة شعبها أكثر قوّةً من خلال علاقتها الزهديّة مع الله. وأحد أكثر الجوانب تمييزًا لِقداسة هذه الشابّة هو بالتحديد هذا الترابط بين خبرتها الصوفيّة ومهمّتها السياسيّة. وتلت سنواتِ الحياة الخفيّة والنموّ الداخليّ مدّةُ العامين الوجيزة، ولكن الكثيفة، من حياتها العامّة: عامٌ من "العمل" وعام من "العذاب".
في بداية عام 1429، بدأت جان عملها في التحرير. تبيِّن لنا الشهادات العديدة هذه المرأة الشابّة وهي فقط في السابعة عشرة من عمرها كَإنسانة قويّة جدًّا وحاسمة، قادرة على إقناع الرجال القلقين والمُحبَطين. وإذ تغلّبت على جميع العقبات، التقت بِولي عهد فرنسا، الملك شارل السابع العتيد، الذي أخضعها في بواتييه Poitiers لامتحان بعض رجال اللاهوت في الجامعة. وكانت ردود فعلهم إيجابيّة: إنّهم لم يروا فيها أي شرّ، بل مسيحيّة صالحة فحسب.
وفي 22 آذار/مارس 1429، أملَت جانّ رسالة هامّة لملك انكلترّا ورجاله الذين يحاصرون مدينة أورليان Orléans (المرجع نفسه، ص 221-222). كان اقتراحها عرض سلام حقيقيّ عادل بين الشعبَين المسيحيَّين، على نور اسمي يسوع ومريم، لكنّها قوبلت بالرفض، ووجب على جانّ أن تجاهد في الكفاح من أجل تحرير المدينة، وهذا ما جرى يوم 8 أيار/مايو. ولحظة الذروة الأخرى في عملها السياسيّ هي تتويج الملك شارل السابع في ريمس Reims، في 17 تموز/يوليو 1429. وعاشت جانّ مع الجنود لمدّة عام كامل، وهي تقوم بينهم بِمهمّة تبشير حقيقيّة. كثيرة هي شهاداتهم حول طيبتها وشجاعتها وطهارتها غير الاعتياديّة. وكان الجميع يدعونها، كما عرَّفت هي عن نفسها، بِلقب "الصبيّة"، أي العذراء.
بدأت عذابات جانّ في 23 أيار/مايو 1430، عندما وقعت أسيرة بين أيدي أعدائها. فقد اقتيدت يوم 23 كانون الأوّل/ديسمبر إلى مدينة روان Rouen. وهناك جرت محاكمة الإدانة الطويلة والدراميّة، التي بدأت في شباط/فبراير 1431 وانتهت في 30 أيار/مايو بِالمحرقة. كانت محاكمة كبيرة ورسميّة، ترأّسها قاضيان كنسيّان، الأسقف بيار كوشون والمحقِّق جان لوميتر، ولكن في الواقع كانت تقودها بالكامل مجموعة كبيرة من لاهوتيّي جامعة باريس الشهيرة، الذين شاركوا بالمحاكمة كَمُستشارين. كانوا رجال دين فرنسيّين لديهم، بما أنّهم قد قاموا بِخيارٍ سياسيّ يتعارض وخيار جانّ، رأيٌ سلبيّ مُسبق حول شخصها ومهمّتها. إنّ هذه المحاكمة صفحة مذهلة من تاريخ القداسة وصفحة مُنيرة أيضًا حول سرّ الكنيسة، التي وبحسب كلمات المجمع الفاتيكانيّ الثاني، “هي، في آن واحد، مقدّسة ومفتقرة دائماً إلى التطهير” (نور الأمم، 8). إنّه اللقاء الدراميّ ما بين هذه القدّيسة وقضاتها، وهم من رجال الدين. واتهم هؤلاء جانّ وحاكموها، حتّى أنّها أُدينَت كمهرطقة وأُرسلت إلى الموت الرهيب على المحرقة. وعلى خلاف اللاّهوتيّين القدّيسين الذين أناروا جامعة باريس، كالقدّيس بونافينتورا والقدّيس توما الأكوينيّ والطوباويّ دونس سكوت، الذين تحدثّتُ عنهم في بعض التعاليم المسيحيّة، كان هؤلاء القضاة لاهوتيّين يفتقرون إلى المحبّة والتواضع لِيروا في هذه الشابّة عمل الله. تتبادر إلى الذهن كلمات يسوع التي يقول فيها إنّ أسرار الله قد أُظهرت لمن عندهم قلب الأطفال، وأُخفيَت عن الحكماء والفُهماء الذين لا تواضع لهم (راجع لوقا 10، 21). وهكذا، كان قُضاة جانّ عاجزين بالكامل عن فهمها، ورؤية جمال روحها: لم يكونوا يعلمون أنّهم إنّما يحكمون على قدّيسة.
رفضت المحكمة طلب جانّ التماس حكم البابا في 24 أيار/مايو. وفي صباح يوم 30 أيار/مايو، تلقّت للمرّة الأخيرة القربان المقدّس في السجن، ونُقلت على الفور إلى التعذيب في ساحة السوق القديمة. فطلبت من أحد الكهنة أن يمسك أمام المحرقة بِصليب الزيّاح. وهكذا ماتت وهي تنظر إلى يسوع المصلوب وتتلو بصوتٍ عالٍ ولعدّة مرّات اسم يسوع (PNul، الفصل الأوّل، ص 457، راجع التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة، 435). وبعد حوالي 25 عامًا، اختُتِمَت محاكمة البطلان، التي كانت قد افتُتحت تحت سلطة البابا كالّيستوس الثالث، بِقرار رسميّ يُعلن بطلان الإدانة (7 تموز/يوليو 1456؛ PNul، الفصل الثاني، ص 604-610). تسلِّط هذه المحاكمة الطويلة، التي جمعت شهادات الشهود وأحكام العديد من اللاهوتيّين، وهي كلّها لِصالح جانّ، الضوءَ على براءتها وإخلاصها المثاليّ للكنيسة. وقد أعلن لاحقًا البابا بينديكتس الخامس عشر جان دارك قدّيسة في عام 1920.
إخوتي وأخواتي الأعزّاء، اسم يسوع، الذي ابتهلت به قدّيستنا حتّى آخر لحظات حياتها الأرضيّة، كان كالتنفّس المستمرّ لروحها، كخفقان نبض قلبها، جوهرَ كلّ حياتها. “سرّ محبّة جان دارك”، الذي جذب كثيرًا الشاعر شارل بيغي Charles Péguy، هو هذه المحبّة الكاملة لِيسوع، وللقريب في يسوع ومن أجل يسوع. هذه القدّيسة فهمت أنّ المحبّة تُعانق كلّ واقع الله والإنسان، واقع السماء والأرض، واقع الكنيسة والعالم. يسوع هو دائمًا في المكان الأوّل في حياتها، وفقًا لعبارتها الجميلة: “يجب أن نخدم ربّنا أوّلاً” (PCon، الفصل الأوّل، ص 288، راجع التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة، 223). أن نحبّه يعني أن نطيع دومًا مشيئته. وهي تؤكِّد بثقة كاملة وتسليم للذات قائلة: “اتكِّل على الله خالقي، أحبّه من كلّ قلبي” (المرجع نفسه، ص 337). ومع نذر العذريّة، تكرّس جانّ بشكلٍ حصريّ كلّ ذاتها لمحبّة يسوع الوحيدة: إنّه “وعدُها الذي قطعته لربّنا في أن تحافِظ جيّدًا على عذريّتها في الجسد والروح” (المرجع نفسه، ص 149-150). عذريّة الروح هي “حالة النعمة”، القيمة الأسمى، وهي بالنسبة إليها أثمن من الحياة: إنّها هبة من الله يجب أن نستلمها ونحافظ عليها بِتواضع وثقة. يتعلّق أحد النصوص الأكثر شهرة في المحاكمة الأولى بهذا تحديدًا: “عندما سُئلَت إن كانت تعلم أهي في حال نعمة الله، تُجيب: إن لم أكن فيها، فليضعني الله هنالك، وإن كنت هنالك، فليُبقِني الله فيها” (المرجع نفسه، ص 62، راجع التعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة، 2005).
تعيش قدّيستنا الصلاة كحوار مستمرّ مع الربّ، الذي يُنير أيضًا حوارها مع القضاة ويعطيها السلام والأمان. لقد طلبت بثقة: “أيّها الإله الكليّ العذوبة، على شرف آلامك المقدّسة، أطلب منك، إذا كنت تحبّني، أن تُظهِر لي كيف ينبغي أن أجيب رجال الكنيسة هؤلاء” (المرجع نفسه، ص 252). تتأمّل جانّ يسوع كـ “ملك السماء والأرض”. وهكذا، طلبت جانّ أن تُرسم على رايتها صورة “ربّنا ماسك العالم” (المرجع نفسه، ص 172): وهي أيقونة مهمّتها السياسيّة. فتحرير شعبها هو عمل عدالة إنسانيّة، تقوم به جانّ في المحبّة، من أجل محبّة يسوع. ومثالها مثالٌ جميل عن قداسة العلمانيّين الملتزمين في الحياة السياسيّة، وخاصّةً في الحالات الأكثر صعوبة. والإيمان هو النور الذي يهدي كلّ خيار، كما سوف يشهد بعد قرن واحد، قدّيسٌ كبير آخر، هو توماس مور الإنكليزيّ. تتأمّل جانّ أيضًا في يسوع بِواقع الكنيسة بأكمله، “الكنيسة المُنتصرة” في السماء، وكذلك “الكنيسة المُجاهدة” على الأرض. بِحسب كلماتها، “ربّنا والكنيسة واحد” (المرجع نفسه، ص 166). هذا التأكيد، المذكور في التعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكية (رقم 795)، له طابع بطوليّ حقًّا في سياق "محاكمة الإدانة"، أمام قضاتها، رجال الكنيسة، الذين اضطهدوها وأدانوها. في محبّة يسوع تجد جانّ القوّة في أن تحبّ الكنيسة حتّى النهاية، حتّى لحظة إدانتها.
يطيب لي أن أذكر كيف كان للقدّيسة جان دارك تأثير عميق على قدّيسة شابّة من العصر الحديث هي تيريزا الطفل يسوع. ففي حياة مختلفة تمامًا قضتها في المحبسة، كانت راهبة ليزيو الكرمليّة تشعر بأنّها قريبة جدًّا من جانّ، وهي تعيش في قلب الكنيسة، وتُشارك في آلام المسيح من أجل خلاص العالم. وقد جمعتهما الكنيسة كَشفيعتَين لفرنسا، بعد مريم العذراء. وقد عبّرت القدّيسة تيريزا عن رغبتها في أن تموت مثل جانّ، وهي تتلفّظ بِاسم يسوع (المخطوط ب، 3ر)، وكانت تُحييها المحبّة الكبيرة نفسها ليسوع والقريب، المُعاشة في العذريّة المكرّسة.
إخوتي وأخواتي الأعزّاء، تدعونا القدّيسة جان دارك، بِشهادتها المُنيرة، إلى مستوى عالٍ من الحياة المسيحيّة: أن نجعل من الصلاة أساس أيّامنا؛ وأن تكون لدينا الثقة الكاملة بإتمام مشيئة الله، مهما كانت؛ ونعيش المحبّة دون مُحاباة، دون حدود، ونستقي مثلها من محبّة يسوع محبّةً عميقة للكنيسة. شكرًا.
ولدت جان في دومريمي، وهي قرية صغيرة تقع على الحدود بين فرنسا و اللورين. وكان والداها مُزارعَين ميسورَين، يعرفهما الجميع كمسيحيَّين ممتازَين. تلقّت على أيديهما تربية دينيّة جيّدة، مع تأثير كبير من روحانيّة "اسم يسوع"، التي علّمها القدّيس برناردينوس من سيينا وانتشرت في أوروبّا بواسطة الرهبان الفرنسيسكان. وكان يُضاف دومًا إلى اسم يسوع اسمُ مريم، لذا تتركَّز روحانيّة جان بعمق على المسيح ومريم ، على خلفيّة التديّن الشعبي. وأظهرت منذ طفولتها محبّة كبيرة ورأفة تجاه الفقراء والمرضى وجميع الذين يُعانون، في سياق الحرب الدراميّ.
من كلماتها هي نعلم أنّ حياة جانّ الدينيّة نضجت كخبرة صوفيّة منذ سنّها الثالث عشر (PCon، ص 47-48). فمن خلال “صوت” رئيس الملائكة مار ميخائيل، شعرت جانّ بأنّ الله يدعوها لتقوية حياتها المسيحيّة، وكذلك للالتزام شخصيًّا بِتحرير شعبها. وكان جوابها الفوريّ، و “والنَعَم الذي نطقت به”، نذرَ العُذريّة، مع التزام جديد بالحياة المكرّسة والصلاة: المشاركة اليوميّة في القدّاس، الاعترافات والمناولات المتكرِّرة، أوقات طويلة في الصلاة الصامتة أمام المصلوب أو أمام صورة السيّدة العذراء. أصبح تعاطف والتزام الشابّة الريفيّة الفرنسيّة تجاه معاناة شعبها أكثر قوّةً من خلال علاقتها الزهديّة مع الله. وأحد أكثر الجوانب تمييزًا لِقداسة هذه الشابّة هو بالتحديد هذا الترابط بين خبرتها الصوفيّة ومهمّتها السياسيّة. وتلت سنواتِ الحياة الخفيّة والنموّ الداخليّ مدّةُ العامين الوجيزة، ولكن الكثيفة، من حياتها العامّة: عامٌ من "العمل" وعام من "العذاب".
في بداية عام 1429، بدأت جان عملها في التحرير. تبيِّن لنا الشهادات العديدة هذه المرأة الشابّة وهي فقط في السابعة عشرة من عمرها كَإنسانة قويّة جدًّا وحاسمة، قادرة على إقناع الرجال القلقين والمُحبَطين. وإذ تغلّبت على جميع العقبات، التقت بِولي عهد فرنسا، الملك شارل السابع العتيد، الذي أخضعها في بواتييه Poitiers لامتحان بعض رجال اللاهوت في الجامعة. وكانت ردود فعلهم إيجابيّة: إنّهم لم يروا فيها أي شرّ، بل مسيحيّة صالحة فحسب.
وفي 22 آذار/مارس 1429، أملَت جانّ رسالة هامّة لملك انكلترّا ورجاله الذين يحاصرون مدينة أورليان Orléans (المرجع نفسه، ص 221-222). كان اقتراحها عرض سلام حقيقيّ عادل بين الشعبَين المسيحيَّين، على نور اسمي يسوع ومريم، لكنّها قوبلت بالرفض، ووجب على جانّ أن تجاهد في الكفاح من أجل تحرير المدينة، وهذا ما جرى يوم 8 أيار/مايو. ولحظة الذروة الأخرى في عملها السياسيّ هي تتويج الملك شارل السابع في ريمس Reims، في 17 تموز/يوليو 1429. وعاشت جانّ مع الجنود لمدّة عام كامل، وهي تقوم بينهم بِمهمّة تبشير حقيقيّة. كثيرة هي شهاداتهم حول طيبتها وشجاعتها وطهارتها غير الاعتياديّة. وكان الجميع يدعونها، كما عرَّفت هي عن نفسها، بِلقب "الصبيّة"، أي العذراء.
بدأت عذابات جانّ في 23 أيار/مايو 1430، عندما وقعت أسيرة بين أيدي أعدائها. فقد اقتيدت يوم 23 كانون الأوّل/ديسمبر إلى مدينة روان Rouen. وهناك جرت محاكمة الإدانة الطويلة والدراميّة، التي بدأت في شباط/فبراير 1431 وانتهت في 30 أيار/مايو بِالمحرقة. كانت محاكمة كبيرة ورسميّة، ترأّسها قاضيان كنسيّان، الأسقف بيار كوشون والمحقِّق جان لوميتر، ولكن في الواقع كانت تقودها بالكامل مجموعة كبيرة من لاهوتيّي جامعة باريس الشهيرة، الذين شاركوا بالمحاكمة كَمُستشارين. كانوا رجال دين فرنسيّين لديهم، بما أنّهم قد قاموا بِخيارٍ سياسيّ يتعارض وخيار جانّ، رأيٌ سلبيّ مُسبق حول شخصها ومهمّتها. إنّ هذه المحاكمة صفحة مذهلة من تاريخ القداسة وصفحة مُنيرة أيضًا حول سرّ الكنيسة، التي وبحسب كلمات المجمع الفاتيكانيّ الثاني، “هي، في آن واحد، مقدّسة ومفتقرة دائماً إلى التطهير” (نور الأمم، 8). إنّه اللقاء الدراميّ ما بين هذه القدّيسة وقضاتها، وهم من رجال الدين. واتهم هؤلاء جانّ وحاكموها، حتّى أنّها أُدينَت كمهرطقة وأُرسلت إلى الموت الرهيب على المحرقة. وعلى خلاف اللاّهوتيّين القدّيسين الذين أناروا جامعة باريس، كالقدّيس بونافينتورا والقدّيس توما الأكوينيّ والطوباويّ دونس سكوت، الذين تحدثّتُ عنهم في بعض التعاليم المسيحيّة، كان هؤلاء القضاة لاهوتيّين يفتقرون إلى المحبّة والتواضع لِيروا في هذه الشابّة عمل الله. تتبادر إلى الذهن كلمات يسوع التي يقول فيها إنّ أسرار الله قد أُظهرت لمن عندهم قلب الأطفال، وأُخفيَت عن الحكماء والفُهماء الذين لا تواضع لهم (راجع لوقا 10، 21). وهكذا، كان قُضاة جانّ عاجزين بالكامل عن فهمها، ورؤية جمال روحها: لم يكونوا يعلمون أنّهم إنّما يحكمون على قدّيسة.
رفضت المحكمة طلب جانّ التماس حكم البابا في 24 أيار/مايو. وفي صباح يوم 30 أيار/مايو، تلقّت للمرّة الأخيرة القربان المقدّس في السجن، ونُقلت على الفور إلى التعذيب في ساحة السوق القديمة. فطلبت من أحد الكهنة أن يمسك أمام المحرقة بِصليب الزيّاح. وهكذا ماتت وهي تنظر إلى يسوع المصلوب وتتلو بصوتٍ عالٍ ولعدّة مرّات اسم يسوع (PNul، الفصل الأوّل، ص 457، راجع التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة، 435). وبعد حوالي 25 عامًا، اختُتِمَت محاكمة البطلان، التي كانت قد افتُتحت تحت سلطة البابا كالّيستوس الثالث، بِقرار رسميّ يُعلن بطلان الإدانة (7 تموز/يوليو 1456؛ PNul، الفصل الثاني، ص 604-610). تسلِّط هذه المحاكمة الطويلة، التي جمعت شهادات الشهود وأحكام العديد من اللاهوتيّين، وهي كلّها لِصالح جانّ، الضوءَ على براءتها وإخلاصها المثاليّ للكنيسة. وقد أعلن لاحقًا البابا بينديكتس الخامس عشر جان دارك قدّيسة في عام 1920.
إخوتي وأخواتي الأعزّاء، اسم يسوع، الذي ابتهلت به قدّيستنا حتّى آخر لحظات حياتها الأرضيّة، كان كالتنفّس المستمرّ لروحها، كخفقان نبض قلبها، جوهرَ كلّ حياتها. “سرّ محبّة جان دارك”، الذي جذب كثيرًا الشاعر شارل بيغي Charles Péguy، هو هذه المحبّة الكاملة لِيسوع، وللقريب في يسوع ومن أجل يسوع. هذه القدّيسة فهمت أنّ المحبّة تُعانق كلّ واقع الله والإنسان، واقع السماء والأرض، واقع الكنيسة والعالم. يسوع هو دائمًا في المكان الأوّل في حياتها، وفقًا لعبارتها الجميلة: “يجب أن نخدم ربّنا أوّلاً” (PCon، الفصل الأوّل، ص 288، راجع التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة، 223). أن نحبّه يعني أن نطيع دومًا مشيئته. وهي تؤكِّد بثقة كاملة وتسليم للذات قائلة: “اتكِّل على الله خالقي، أحبّه من كلّ قلبي” (المرجع نفسه، ص 337). ومع نذر العذريّة، تكرّس جانّ بشكلٍ حصريّ كلّ ذاتها لمحبّة يسوع الوحيدة: إنّه “وعدُها الذي قطعته لربّنا في أن تحافِظ جيّدًا على عذريّتها في الجسد والروح” (المرجع نفسه، ص 149-150). عذريّة الروح هي “حالة النعمة”، القيمة الأسمى، وهي بالنسبة إليها أثمن من الحياة: إنّها هبة من الله يجب أن نستلمها ونحافظ عليها بِتواضع وثقة. يتعلّق أحد النصوص الأكثر شهرة في المحاكمة الأولى بهذا تحديدًا: “عندما سُئلَت إن كانت تعلم أهي في حال نعمة الله، تُجيب: إن لم أكن فيها، فليضعني الله هنالك، وإن كنت هنالك، فليُبقِني الله فيها” (المرجع نفسه، ص 62، راجع التعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة، 2005).
تعيش قدّيستنا الصلاة كحوار مستمرّ مع الربّ، الذي يُنير أيضًا حوارها مع القضاة ويعطيها السلام والأمان. لقد طلبت بثقة: “أيّها الإله الكليّ العذوبة، على شرف آلامك المقدّسة، أطلب منك، إذا كنت تحبّني، أن تُظهِر لي كيف ينبغي أن أجيب رجال الكنيسة هؤلاء” (المرجع نفسه، ص 252). تتأمّل جانّ يسوع كـ “ملك السماء والأرض”. وهكذا، طلبت جانّ أن تُرسم على رايتها صورة “ربّنا ماسك العالم” (المرجع نفسه، ص 172): وهي أيقونة مهمّتها السياسيّة. فتحرير شعبها هو عمل عدالة إنسانيّة، تقوم به جانّ في المحبّة، من أجل محبّة يسوع. ومثالها مثالٌ جميل عن قداسة العلمانيّين الملتزمين في الحياة السياسيّة، وخاصّةً في الحالات الأكثر صعوبة. والإيمان هو النور الذي يهدي كلّ خيار، كما سوف يشهد بعد قرن واحد، قدّيسٌ كبير آخر، هو توماس مور الإنكليزيّ. تتأمّل جانّ أيضًا في يسوع بِواقع الكنيسة بأكمله، “الكنيسة المُنتصرة” في السماء، وكذلك “الكنيسة المُجاهدة” على الأرض. بِحسب كلماتها، “ربّنا والكنيسة واحد” (المرجع نفسه، ص 166). هذا التأكيد، المذكور في التعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكية (رقم 795)، له طابع بطوليّ حقًّا في سياق "محاكمة الإدانة"، أمام قضاتها، رجال الكنيسة، الذين اضطهدوها وأدانوها. في محبّة يسوع تجد جانّ القوّة في أن تحبّ الكنيسة حتّى النهاية، حتّى لحظة إدانتها.
يطيب لي أن أذكر كيف كان للقدّيسة جان دارك تأثير عميق على قدّيسة شابّة من العصر الحديث هي تيريزا الطفل يسوع. ففي حياة مختلفة تمامًا قضتها في المحبسة، كانت راهبة ليزيو الكرمليّة تشعر بأنّها قريبة جدًّا من جانّ، وهي تعيش في قلب الكنيسة، وتُشارك في آلام المسيح من أجل خلاص العالم. وقد جمعتهما الكنيسة كَشفيعتَين لفرنسا، بعد مريم العذراء. وقد عبّرت القدّيسة تيريزا عن رغبتها في أن تموت مثل جانّ، وهي تتلفّظ بِاسم يسوع (المخطوط ب، 3ر)، وكانت تُحييها المحبّة الكبيرة نفسها ليسوع والقريب، المُعاشة في العذريّة المكرّسة.
إخوتي وأخواتي الأعزّاء، تدعونا القدّيسة جان دارك، بِشهادتها المُنيرة، إلى مستوى عالٍ من الحياة المسيحيّة: أن نجعل من الصلاة أساس أيّامنا؛ وأن تكون لدينا الثقة الكاملة بإتمام مشيئة الله، مهما كانت؛ ونعيش المحبّة دون مُحاباة، دون حدود، ونستقي مثلها من محبّة يسوع محبّةً عميقة للكنيسة. شكرًا.