إخوتي وأخواتي الأعزّاء،
“Dieu est le Dieu du coeur humain” [الله هو إله قلب الإنسان] (Trattato dell’Amore di Dio كتاب محبّة الله، XV، I): من هذه الكلمات التي تبدو بسيطة ندرك سمة روحانيّة أستاذٍ عظيم أودّ أن أحدّثكم عنه اليوم، هو القدّيس فرنسوا دي سال، أسقف وملفان الكنيسة. وُلد عام 1567 في منطقة من مناطق فرنسا الحدوديّة، وكان ابن السنيور دي بوازي، وهي عائلة عريقة نبيلة من عائلات سافوا. وإذ عاش مخضرمًا بين القرنين السادس والسابع عشر، فقد جمع في شخصه أفضل التعاليم والاكتشافات الثقافيّة للقرن المنتهي، مُوفّقًا بين تراث الأنسنة (humanisme) والتوق نحو المُطلق الخاصّ بالتيّارات الصوفيّة. كانت تنشئته بالغة العناية، فقد أتمّ في باريس دروسه العُليا، مُكرّسًا نفسه أيضًا لِعلم اللاهوت، ودروس القانون في جامعة بادوا، كما كان يرغب والده، واختُتمت هذه بِشكلٍ لامع، بشهادة الدكتوراه في utroque iure، القانون الكنسيّ والقانون المدنيّ. ودخل في شبابه المنسجم، وهو يتأمّل في فكر القدّيس أغسطينوس والقدّيس توما الأكويني، في أزمة عميقة دفعته إلى التساؤل حول خلاصه الأبديّ وما قدّره الله في شأنه، مُعانيًا كَفجيعة روحيّة حقيقيّة قضايا عصره اللاهوتيّة الرئيسيّة. كان يصلّي بِحرارة، لكنّ الشك عذّبه لِدرجة أنّه لم يستطع لِبضعة أسابيع أن يأكل وينام البتّة تقريبًا. وفي ذروة التجربة، توجّه إلى كنيسة الدومينيكان في باريس، ففتح قلبه وصلّى هكذا: “مهما حدث، يا ربّ، أنت يا من تُمسك كلّ شيء بيدك، وطرقُك طرق عدالة وحقّ؛ مهما كان ما حدّدتَه بشأني...؛ أنت يا من هو دومًا القاضي العادل والأب الرحيم، فأنا سأحبّك، يا ربّ (...)، سوف أحبّك هنا، يا إلهي، وأظلّ آمل دائمًا بِرحمتك، وأكرِّر دومًا تسبيحك....أيّها الربّ يسوع، ستكون أنت دائمًا رجائي وخلاصي في أرض الأحياء” (I Proc. Canon، المجلد الأول ، المادّة 4). ووجد فرنسوا ذو العشرين عامًا السلام في الواقع الجذري والمُحرِّر لمحبّة الله: أن أحبّه دون أن أطلب منه أي شيء في المقابل وأثق بالمحبّة الإلهيّة؛ وألاّ أسأل أبدًا بعد الآن ماذا سيفعل الله بي: أنا أحبّه ببساطة، بِمعزلٍ عمّا يعطيني أو لا يعطيني. وهكذا وجد السلام، ومسألة القدر والقضاء - التي كانت موضع نقاش في ذاك الزمن- باتت محلولة، لأنّه لم يعد يبحث عمّا يمكن أن يحصل عليه من الله؛ كان يحبّه فقط، ويسلّم ذاته لِطيبته. وسيكون هذا سرّ حياته، الذي يظهر في عمله الرئيسي: “كتاب محبّة الله”.
“Dieu est le Dieu du coeur humain” [الله هو إله قلب الإنسان] (Trattato dell’Amore di Dio كتاب محبّة الله، XV، I): من هذه الكلمات التي تبدو بسيطة ندرك سمة روحانيّة أستاذٍ عظيم أودّ أن أحدّثكم عنه اليوم، هو القدّيس فرنسوا دي سال، أسقف وملفان الكنيسة. وُلد عام 1567 في منطقة من مناطق فرنسا الحدوديّة، وكان ابن السنيور دي بوازي، وهي عائلة عريقة نبيلة من عائلات سافوا. وإذ عاش مخضرمًا بين القرنين السادس والسابع عشر، فقد جمع في شخصه أفضل التعاليم والاكتشافات الثقافيّة للقرن المنتهي، مُوفّقًا بين تراث الأنسنة (humanisme) والتوق نحو المُطلق الخاصّ بالتيّارات الصوفيّة. كانت تنشئته بالغة العناية، فقد أتمّ في باريس دروسه العُليا، مُكرّسًا نفسه أيضًا لِعلم اللاهوت، ودروس القانون في جامعة بادوا، كما كان يرغب والده، واختُتمت هذه بِشكلٍ لامع، بشهادة الدكتوراه في utroque iure، القانون الكنسيّ والقانون المدنيّ. ودخل في شبابه المنسجم، وهو يتأمّل في فكر القدّيس أغسطينوس والقدّيس توما الأكويني، في أزمة عميقة دفعته إلى التساؤل حول خلاصه الأبديّ وما قدّره الله في شأنه، مُعانيًا كَفجيعة روحيّة حقيقيّة قضايا عصره اللاهوتيّة الرئيسيّة. كان يصلّي بِحرارة، لكنّ الشك عذّبه لِدرجة أنّه لم يستطع لِبضعة أسابيع أن يأكل وينام البتّة تقريبًا. وفي ذروة التجربة، توجّه إلى كنيسة الدومينيكان في باريس، ففتح قلبه وصلّى هكذا: “مهما حدث، يا ربّ، أنت يا من تُمسك كلّ شيء بيدك، وطرقُك طرق عدالة وحقّ؛ مهما كان ما حدّدتَه بشأني...؛ أنت يا من هو دومًا القاضي العادل والأب الرحيم، فأنا سأحبّك، يا ربّ (...)، سوف أحبّك هنا، يا إلهي، وأظلّ آمل دائمًا بِرحمتك، وأكرِّر دومًا تسبيحك....أيّها الربّ يسوع، ستكون أنت دائمًا رجائي وخلاصي في أرض الأحياء” (I Proc. Canon، المجلد الأول ، المادّة 4). ووجد فرنسوا ذو العشرين عامًا السلام في الواقع الجذري والمُحرِّر لمحبّة الله: أن أحبّه دون أن أطلب منه أي شيء في المقابل وأثق بالمحبّة الإلهيّة؛ وألاّ أسأل أبدًا بعد الآن ماذا سيفعل الله بي: أنا أحبّه ببساطة، بِمعزلٍ عمّا يعطيني أو لا يعطيني. وهكذا وجد السلام، ومسألة القدر والقضاء - التي كانت موضع نقاش في ذاك الزمن- باتت محلولة، لأنّه لم يعد يبحث عمّا يمكن أن يحصل عليه من الله؛ كان يحبّه فقط، ويسلّم ذاته لِطيبته. وسيكون هذا سرّ حياته، الذي يظهر في عمله الرئيسي: “كتاب محبّة الله”.
وبعد تغلّبه على مقاومة والده، تبع فرنسوا دعوة الربّ، وسيمَ كاهنًا في 18 كانون الأوّل/ديسمبر 1593. وفي عام 1602 أصبح أسقف جنيف، في حقبة كانت فيها المدينة معقلاً للكالفينيّة، حتّى أنّ المقر الأسقفيّ كان "في المنفى" في أنّيسي. وكراعٍ لأبرشيّة فقيرة ومضطّربة، في منطقة جبليّة كان يعرف جيّدًا قساوتها وجمالها، كتب: “لقد التقيته [الله] ممتلئًا رقّة وعذوبة في أعالي جبالنا وأكثرها وعورةً، حيث كثير من النفوس البسيطة تحبّه وتعبده بكلّ صدق وإخلاص؛ الأوعال والضأن تتراكض هنا وهناك بين المناطق المتجلّدة المخيفة لسبّحه” (الرسالة إلى أمّ شانتال، تشرين الأوّل/أكتوبر 1606، في Oeuvres، دار نشر Mackey، المجلّد الثالث عشر، ص 223). ومع ذلك فإنّ تأثير حياته وتعليمه على أوروبّا في تلك الحقبة والقرون التالية يبدو هائلاً. فهو رسول وواعظ وكاتب ورجل عمل وصلاة؛ يجهد لِتحقيق مُثُل مجمع ترينتو؛ ومُشارك في النقاش والحوار مع البروتستانت، مُختبرًا بشكلٍ مُتزايد، بِمعزلٍ عن المواجهة اللاهوتيّة الضروريّة، فعاليّة العلاقة الشخصيّة والمحبّة؛ وقد كُلِّفَ بمهمّات دبلوماسيّة على مستوًى أوروبيّ، وبمهامَّ اجتماعيّة في الوساطة والمصالحة. لكنّ القدّيس فرنسوا دي سال هو قبل كلّ شيء مُرشد نفوس: فمن لقاء امرأة شابّة، السيّدة دي شارموازي، سيستلهم كتابًا من أكثر الكُتُب قراءةً في العصر الحديث، “مقدّمة الحياة المتعبّدة”؛ ومن تواصله الروحيّ العميق مع شخصيّة استثنائيّة، هي القدّيسة جانّ فرنسواز دي شانتال، ستنشأ عائلة دينيّة جديدة، هي رهبنة الزيارة، التي تتّسم - كما يريد القدّيس - بِتكريس كامل لله مُعاش في البساطة والتواضع، وهن يفعلن جيّدًا وبِشكلٍ غير عاديّ الأمور العاديّة: يكتب “... أريد لِبناتي ألاّ يكون لهنّ مثالٌ آخر غير تمجيد [ربّنا] بِتواضعهنّ" (الرسالة إلى المونسنيور دي ماركومون، حزيران/يونيو 1615). توفّي عام 1622، في الخامسة والخمسين من عمره، بعد حياة اتّسمت بالأوقات الصعبة والعمل الرسوليّ المنهك.
لقد كانت حياة القديس فرنسوا دي سال قصيرة نسبيًّا، لكنّها مُعاشة بِقوّة كبيرة. ينبعث من شخصيّة هذا القدّيس انطباع انغمار نادر، يظهر في صفاء بحثه الفكريّ، ولكن أيضًا في غنى عواطفه، و“رقّة” تعاليمه التي كان لها تأثير كبير على الضمير المسيحيّ. ومن كلمة "إنسانيّة" جسّد الكثير من المجازات المختلفة، التي يمكن أن يتّخذها هذا المصطلح، في الحاضر كما في الماضي: ثقافة ولطافة، حريّة وحنان، نبل وتضامن. في المظهر كان له شيء من عظمة المنظر الذي عاش فيه، محافظًا أيضًا على البساطة والطبيعيّة. والكلمات القديمة والصور التي عبّر بها عن فكره ترنّ بشكل غير متوقّع، حتّى في أذن إنسان عصرنا، كَلغة أمّ مألوفة.
يوجّه فرنسوا دي سال إلى فيلوتيا، المقصودة المثاليّة في كتابه "مقدّمة الحياة المتعبّدة" (1607)، دعوة كانت تبدو في تلك الحقبة ثوريّة. وهي دعوة أن تكون كليًّا لله، في عيشها بالملء حضورها في العالم وواجبات وضعها الخاص. “مقصدي هو تثقيف أولئك الذين يعيشون في المدن، في الحالة الزوجيّة، في البلاط [...]" (تمهيد لـ “مقدّمة الحياة المتعبّدة”). وتصرّ الوثيقة التي سوف يعلنه بها البابا بيوس التاسع، بعد أكثر من قرنين، ملفانًا للكنيسة، على هذا التوسيع لنطاق الدعوة إلى الكمال والقداسة، حيث نجد مكتوبًا: “[التقوى الحقيقيّة] قد نفذت إلى عرش الملوك، وإلى داخل خيمة قادة الجيوش، ومركز القضاة، والمكاتب والدكاكين وحتّى أكواخ الرعاة [...]" (Dives in misericordia، ـ16 تشرين الثاني/نوفمبر 1877). وهكذا وُلد ذاك النداء للعلمانيّين، تلك العناية لِتكريس الأشياء الدنيويّة ولتقديس الحياة اليوميّة التي سوف يشدِّد عليها المجمع الفاتيكاني الثاني وروحانيّة عصرنا. فظهر هكذا مثالُ إنسانيّة مُتصالحة، تعيش في تناغم بين العمل في العالم والصلاة، بين الوضع الدنيويّ والبحث عن الكمال، بمساعدة نعمة الله التي تطبع ما هو إنسانيّ، وتُنقّيه من دون أن تدمّره، وترفعه إلى السموّ الإلهي. ويقدّم القدّيس فرنسوا دي سال إلى تيوتيموس، المسيحي الراشد، الناضج روحيًّا، الذي يوجّه إليه بعد سنوات كتابه “محبّة الله” (1616)، درسًا أكثر تعقيدًا. فالدرس يفترض في البداية رؤية دقيقة للكائن الإنسانيّ، أي أنثروبولوجيا: فـ “عقل” الرجل، أو بالأحرى "النفس العاقلة"، تُعتبر هناك كهندسة متناغمة، كهيكل، ينقسم إلى مساحات عدّة حول المركز، الذي يسمّيه مع الصوفيّين الكبار، "قمّة"، "ذروة" الروح، أو "عمق" النفس. إنّها النقطة التي “يغمض” فيها العقل عينيه، وقد اجتاز كلّ درجاته، وتتّحد المعرفة بالمحبّة (انظر الكتاب الأول، الفصل الثاني عشر). أن تكون المحبّة، في بُعدها اللاهوتيّ، الإلهي، علّة وجود كلّ الأشياء، في درج صاعد لا يبدو أنّه يعرف الشقوق والهوّات، قد لخّصه القديس فرنسوا دي سال في جملة شهيرة: “الإنسان هو كمال الكون؛ الروح هي كمال الإنسان؛ المحبّة هي كمال الروح، والإحسان هو كمال المحبّة” (المرجع نفسه، الكتاب العاشر، الفصل الأول).
في حقبة من الازدهار الصوفيّ القويّ، اعتُبر "كتاب محبّة الله" الأسمى فعلاً، وبالوقت نفسه عملا أدبيًّا رائعًا. فوصفه للدرب نحو الله يبدأ من الاعتراف بِـ "الميل الطبيعيّ" (المرجع نفسه، الكتاب الأول، الفصل السادس عشر)، المحفور في قلب الإنسان رغم كونه خاطئًا، نحو محبّة الله فوق كلّ شيء. ووفقًا لنموذج الكتاب المقدّس، يتكلّم القدّيس فرنسوا دي سال عن الاتّحاد بين الله والإنسان محلّلا سلسلة كاملة من الصور للعلاقة بين الأشخاص. إلهه أبٌ وسيّد، زوج وصديق، له خصائص الأم والمربيّة، هو الشمس التي يكون حتّى الليل وحيًا سرّيًّا منها. هذا الإله يجذب الإنسان إليه بأواصر المحبّة، أي الحريّة الحقيقيّة: “لأنّ المحبّة ليس لديها محكومون بالأشغال الشاقّة ولا عبيدٌ، بل تُخضع كلّ شيء لطاعتها بِقوّة لذيذة لدرجة أنّه، إن لم يكن هناك شيءٌ قويّ كالمحبّة، فليس هناك شيء محبوب كقوّتها” (المرجع نفسه، الكتاب الأوّل، الفصل السادس). نجد في كتاب قدّيسنا تأمّلا عميقًا حول إرادة الإنسان ووصف لِتدفّقها، ومرورها، وموتها لِتعيش (راجع المرجع نفسه، الكتاب التاسع، الفصل الثالث عشر) في التسليم الكامل ليس فقط لمشيئة الله، بل لِما يرتضيه، لِلـ bon plaisir، لِرضاه (راجع المرجع نفسه، الكتاب التاسع، الفصل الأول). وفي ذروة الاتّحاد مع الله، ما وراء اختطافات النشوة التأمليّة، نجد تدفّق المحبّة الملموسة، التي تولي اهتمامًا لجميع احتياجات الآخرين والتي يسمّيها “نشوة الحياة والأعمال” (المرجع نفسه، الكتاب السابع، الفصل السادس).
نلاحظ جيّدًا، في قراءتنا لكتاب محبة الله، وأكثر منه أيضًا في الرسائل التوجيه والصداقة الروحيّة الكثيرة، كم كان القدّيس فرنسوا دي سال عارفًا لِقلب الإنسان. فهو يكتب إلى القدّيسة جانّ دي شانتال: “[...] ها هي قاعدة طاعتنا التي أكتبها لكم بالأحرف الكبيرة: أن تفعلوا كلّ شيء بمحبّة، وليس بالقوّة – وأن تحبّوا الطاعة أكثر من أن تخافوا العصيان. أترك لكم روح الحريّة، ليست تلك التي تستثني الطاعة، والتي هي حريّة العالم؛ بل التي تستثني العنف والقلق والشكّ” (رسالة 14 تشرين الأوّل/أكتوبر 1604). ليس من المستغرب أن نجد في مصدر العديد من طرق التربية والروحانيّة في عصرنا أثرًا لهذا المعلّم، الذي لولاه لما كان هناك القدّيس جان بوسكو ولا “الطريق الصغيرة” البطوليّة للقدّيسة تيريزيا من ليزيو.
إخوتي وأخواتي الأعزّاء، في حقبة كحقبتنا تبحث عن الحريّة، حتّى بالعنف والاضطرابات، لا يجب أن تغيب صلاحيّة هذا المعلّم الكبير لعصرنا في مجال الروحانيّة والسلام، والذي يمنح تلاميذه "روح الحرّيّة"، الحرّيّة الحقيقيّة، كذروة لتعليم مُذهِل وشامل عن واقع المحبّة. فالقدّيس فرنسوا دي سال هو شاهد مثاليّ للأنسنة المسيحيّة؛ بأسلوبه المألوف، وبتشابيه لها أحيانًا أسلوب الشعر، يُذكِّرنا بأنّ الإنسان يحمل محفورًا في أعماق نفسه الحنينَ إلى الله، وأنّ فيه تعالى وحده يجد الفرح الحقيقيّ وتحقيق ذاته الأكمل.
لقد كانت حياة القديس فرنسوا دي سال قصيرة نسبيًّا، لكنّها مُعاشة بِقوّة كبيرة. ينبعث من شخصيّة هذا القدّيس انطباع انغمار نادر، يظهر في صفاء بحثه الفكريّ، ولكن أيضًا في غنى عواطفه، و“رقّة” تعاليمه التي كان لها تأثير كبير على الضمير المسيحيّ. ومن كلمة "إنسانيّة" جسّد الكثير من المجازات المختلفة، التي يمكن أن يتّخذها هذا المصطلح، في الحاضر كما في الماضي: ثقافة ولطافة، حريّة وحنان، نبل وتضامن. في المظهر كان له شيء من عظمة المنظر الذي عاش فيه، محافظًا أيضًا على البساطة والطبيعيّة. والكلمات القديمة والصور التي عبّر بها عن فكره ترنّ بشكل غير متوقّع، حتّى في أذن إنسان عصرنا، كَلغة أمّ مألوفة.
يوجّه فرنسوا دي سال إلى فيلوتيا، المقصودة المثاليّة في كتابه "مقدّمة الحياة المتعبّدة" (1607)، دعوة كانت تبدو في تلك الحقبة ثوريّة. وهي دعوة أن تكون كليًّا لله، في عيشها بالملء حضورها في العالم وواجبات وضعها الخاص. “مقصدي هو تثقيف أولئك الذين يعيشون في المدن، في الحالة الزوجيّة، في البلاط [...]" (تمهيد لـ “مقدّمة الحياة المتعبّدة”). وتصرّ الوثيقة التي سوف يعلنه بها البابا بيوس التاسع، بعد أكثر من قرنين، ملفانًا للكنيسة، على هذا التوسيع لنطاق الدعوة إلى الكمال والقداسة، حيث نجد مكتوبًا: “[التقوى الحقيقيّة] قد نفذت إلى عرش الملوك، وإلى داخل خيمة قادة الجيوش، ومركز القضاة، والمكاتب والدكاكين وحتّى أكواخ الرعاة [...]" (Dives in misericordia، ـ16 تشرين الثاني/نوفمبر 1877). وهكذا وُلد ذاك النداء للعلمانيّين، تلك العناية لِتكريس الأشياء الدنيويّة ولتقديس الحياة اليوميّة التي سوف يشدِّد عليها المجمع الفاتيكاني الثاني وروحانيّة عصرنا. فظهر هكذا مثالُ إنسانيّة مُتصالحة، تعيش في تناغم بين العمل في العالم والصلاة، بين الوضع الدنيويّ والبحث عن الكمال، بمساعدة نعمة الله التي تطبع ما هو إنسانيّ، وتُنقّيه من دون أن تدمّره، وترفعه إلى السموّ الإلهي. ويقدّم القدّيس فرنسوا دي سال إلى تيوتيموس، المسيحي الراشد، الناضج روحيًّا، الذي يوجّه إليه بعد سنوات كتابه “محبّة الله” (1616)، درسًا أكثر تعقيدًا. فالدرس يفترض في البداية رؤية دقيقة للكائن الإنسانيّ، أي أنثروبولوجيا: فـ “عقل” الرجل، أو بالأحرى "النفس العاقلة"، تُعتبر هناك كهندسة متناغمة، كهيكل، ينقسم إلى مساحات عدّة حول المركز، الذي يسمّيه مع الصوفيّين الكبار، "قمّة"، "ذروة" الروح، أو "عمق" النفس. إنّها النقطة التي “يغمض” فيها العقل عينيه، وقد اجتاز كلّ درجاته، وتتّحد المعرفة بالمحبّة (انظر الكتاب الأول، الفصل الثاني عشر). أن تكون المحبّة، في بُعدها اللاهوتيّ، الإلهي، علّة وجود كلّ الأشياء، في درج صاعد لا يبدو أنّه يعرف الشقوق والهوّات، قد لخّصه القديس فرنسوا دي سال في جملة شهيرة: “الإنسان هو كمال الكون؛ الروح هي كمال الإنسان؛ المحبّة هي كمال الروح، والإحسان هو كمال المحبّة” (المرجع نفسه، الكتاب العاشر، الفصل الأول).
في حقبة من الازدهار الصوفيّ القويّ، اعتُبر "كتاب محبّة الله" الأسمى فعلاً، وبالوقت نفسه عملا أدبيًّا رائعًا. فوصفه للدرب نحو الله يبدأ من الاعتراف بِـ "الميل الطبيعيّ" (المرجع نفسه، الكتاب الأول، الفصل السادس عشر)، المحفور في قلب الإنسان رغم كونه خاطئًا، نحو محبّة الله فوق كلّ شيء. ووفقًا لنموذج الكتاب المقدّس، يتكلّم القدّيس فرنسوا دي سال عن الاتّحاد بين الله والإنسان محلّلا سلسلة كاملة من الصور للعلاقة بين الأشخاص. إلهه أبٌ وسيّد، زوج وصديق، له خصائص الأم والمربيّة، هو الشمس التي يكون حتّى الليل وحيًا سرّيًّا منها. هذا الإله يجذب الإنسان إليه بأواصر المحبّة، أي الحريّة الحقيقيّة: “لأنّ المحبّة ليس لديها محكومون بالأشغال الشاقّة ولا عبيدٌ، بل تُخضع كلّ شيء لطاعتها بِقوّة لذيذة لدرجة أنّه، إن لم يكن هناك شيءٌ قويّ كالمحبّة، فليس هناك شيء محبوب كقوّتها” (المرجع نفسه، الكتاب الأوّل، الفصل السادس). نجد في كتاب قدّيسنا تأمّلا عميقًا حول إرادة الإنسان ووصف لِتدفّقها، ومرورها، وموتها لِتعيش (راجع المرجع نفسه، الكتاب التاسع، الفصل الثالث عشر) في التسليم الكامل ليس فقط لمشيئة الله، بل لِما يرتضيه، لِلـ bon plaisir، لِرضاه (راجع المرجع نفسه، الكتاب التاسع، الفصل الأول). وفي ذروة الاتّحاد مع الله، ما وراء اختطافات النشوة التأمليّة، نجد تدفّق المحبّة الملموسة، التي تولي اهتمامًا لجميع احتياجات الآخرين والتي يسمّيها “نشوة الحياة والأعمال” (المرجع نفسه، الكتاب السابع، الفصل السادس).
نلاحظ جيّدًا، في قراءتنا لكتاب محبة الله، وأكثر منه أيضًا في الرسائل التوجيه والصداقة الروحيّة الكثيرة، كم كان القدّيس فرنسوا دي سال عارفًا لِقلب الإنسان. فهو يكتب إلى القدّيسة جانّ دي شانتال: “[...] ها هي قاعدة طاعتنا التي أكتبها لكم بالأحرف الكبيرة: أن تفعلوا كلّ شيء بمحبّة، وليس بالقوّة – وأن تحبّوا الطاعة أكثر من أن تخافوا العصيان. أترك لكم روح الحريّة، ليست تلك التي تستثني الطاعة، والتي هي حريّة العالم؛ بل التي تستثني العنف والقلق والشكّ” (رسالة 14 تشرين الأوّل/أكتوبر 1604). ليس من المستغرب أن نجد في مصدر العديد من طرق التربية والروحانيّة في عصرنا أثرًا لهذا المعلّم، الذي لولاه لما كان هناك القدّيس جان بوسكو ولا “الطريق الصغيرة” البطوليّة للقدّيسة تيريزيا من ليزيو.
إخوتي وأخواتي الأعزّاء، في حقبة كحقبتنا تبحث عن الحريّة، حتّى بالعنف والاضطرابات، لا يجب أن تغيب صلاحيّة هذا المعلّم الكبير لعصرنا في مجال الروحانيّة والسلام، والذي يمنح تلاميذه "روح الحرّيّة"، الحرّيّة الحقيقيّة، كذروة لتعليم مُذهِل وشامل عن واقع المحبّة. فالقدّيس فرنسوا دي سال هو شاهد مثاليّ للأنسنة المسيحيّة؛ بأسلوبه المألوف، وبتشابيه لها أحيانًا أسلوب الشعر، يُذكِّرنا بأنّ الإنسان يحمل محفورًا في أعماق نفسه الحنينَ إلى الله، وأنّ فيه تعالى وحده يجد الفرح الحقيقيّ وتحقيق ذاته الأكمل.