إخوتي وأخواتي الأعزّاء،
أودّ في هذا الصباح أيضًا أن أقدّم لكم شخصيّةنسائيّة، قليلة الشهرة، تُدين لها الكنيسة رغم ذلك بِفضلٍ كبير، ليس فقطلِقداسة حياتها، ولكن أيضًا لأنّها، وبسبب تقواها الكبيرة، قد ساهمت فيتأسيس أحد الاحتفالات الليتورجيّة الأكثر أهميّة في السنة، ألا وهو احتفالالـ Corpus Domini جسد الربّ. نحن بصدد القدّيسة جوليانا من كورنيّون،المعروفة أيضًا بالقدّيسة جوليانا من لياج. لدينا بعض المعلومات عن حياتهاخاصّةً من خلال السيرة الذاتيّة، التي كتبها على الأرجح رجل دين مُعاصرلها، حيثُ جمع عدّة شهادات من الناس الذين عرفوا القدّيسة مباشرةً.
أودّ في هذا الصباح أيضًا أن أقدّم لكم شخصيّةنسائيّة، قليلة الشهرة، تُدين لها الكنيسة رغم ذلك بِفضلٍ كبير، ليس فقطلِقداسة حياتها، ولكن أيضًا لأنّها، وبسبب تقواها الكبيرة، قد ساهمت فيتأسيس أحد الاحتفالات الليتورجيّة الأكثر أهميّة في السنة، ألا وهو احتفالالـ Corpus Domini جسد الربّ. نحن بصدد القدّيسة جوليانا من كورنيّون،المعروفة أيضًا بالقدّيسة جوليانا من لياج. لدينا بعض المعلومات عن حياتهاخاصّةً من خلال السيرة الذاتيّة، التي كتبها على الأرجح رجل دين مُعاصرلها، حيثُ جمع عدّة شهادات من الناس الذين عرفوا القدّيسة مباشرةً.
Normal 0 21 MicrosoftInternetExplorer4 /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"Normál táblázat"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0cm 5.4pt 0cm 5.4pt; mso-para-margin:0cm; mso-para-margin-bottom:.0001pt; mso-pagination:widow-orphan; font-size:10.0pt; font-family:"Times New Roman";} ولدت جوليانا بين عامي 1191 و 1192 بالقرب من لياج في بلجيكا. من المهمّ التشديد على هذا المكان، لأنّ أبرشيّة لياج كانت، في ذلك الوقت، “عليّة إفخارستيّة” حقًّا، إذا جاز التعبير. فقد فسّر لاهوتيّون مميّزون، قبل جوليانا، قيمة سرّ الإفخارستيّا السامية، وكانت هناك، في لياج نفسها، مجموعات نسائيّة تكرّس نفسها بِسخاء لعبادة القربان المقدّس والمناولة التقيّة. وكنّ يَعِشنَ جنبًا إلى جنب، تحت إشراف كهنة مِثاليّين، ويُكرِّسنَ أنفسهنّ للصلاة والأعمال الخيريّة.
وبعد أن يتِمت جوليانا في الخامسة من عمرها، أوكِلَت مع أختها أنييس إلى رعاية الراهبات الأغسطينيّات في دير مستشفى الجُذام Mont-Cornillon مون كورنيّون. فربّتها خاصّةً راهبةٌ، اسمها سابيانسا، تابعت نموّها الروحيّ، حتّى أبرزت جوليانا نذورها الرهبانيّة وأصبحت هي أيضًا راهبة أغسطينيّة. واكتسبت ثقافة عالية، لِدرجة أنّها كانت تقرأ أعمال آباء الكنيسة باللغة اللاتينيّة، وخاصّةً القدّيس أغسطينوس والقديس برناردوس. وأظهرت جوليانا منذ البداية، بالإضافة إلى ذكائها الحادّ، ميلا خاصّا نحو التأمّل؛ إذ كان لديها شعور عميق بِحضور المسيح كانت تختبره في عيشها سرّ الإفخارستيّا بشكلٍ عميق جدًّا وبتوقّفها غالبًا للتأمّل بِكلمات يسوع: “وها أنا معكُم كلَّ الأيّامِ إلى نهايةِ العالم” (متّى 28، 20).
جاءتها الرؤيا الأولى وهي في السادسة عشرة من عمرها، وتكرَّرت بعدها الرؤى عدّة مرّات في ساعات السجود الإفخارستيّة. وكانت الرؤيا تُظهر القمر في كلّ بهائه، مع شريط مُظلم يعبر قطره. وأفهمها الربّ معنى ما ظهر لها. فقد كان القمر يرمز إلى حياة الكنيسة على الأرض، أمّا الخطّ الأكمد فكان يمثِّل غياب عيد ليتورجيّ، طُلبَ من جوليانا أن تعمل لتأسيسه: عيدٍ يتمكّن فيه المؤمنون من أن يتعبّدوا للإفخارستيّا من أجل زيادة إيمانهم، والتقدّم في ممارسة الفضائل والتعويض عن الإهانات للقربان الأقدس.
ولحوالي عشرين سنة، أصبحت خلالها جوليانا رئيسة الدير، أبقت طيّ الكتمان على هذا الوحي، الذي ملأ قلبها بالفرح. ثمّ أسرّت به لاثنتَين من المتعبّدات المتحمّسات للإفخارستيّا، الطوباويّة إيفا، التي كانت تعيش حياة نسكيّة، وإيزابيلا، التي لاقتها إلى دير مون كورنيّون. وأنشأت النسوة الثلاث نوعًا من “التحالف الروحيّ”، بِقصد تمجيد القربان الأقدس. وأرَدنَ أن يُشرِكنَ كاهنًا مُقدَّرًا جدًّا، جان من لوزان، وهو كاهن قانونيّ في كنيسة القديس مارتينوس في لياج، ورجونَهُ أن يستفتي رجال اللاهوت والدين بخصوص ما يعزّ على قلوبهنَّ. وكانت الردود إيجابيّة ومشجّعة.
إنّ ما حدث لجوليانا من كورنيّون يتكرّر كثيرًا في حياة القدّيسين: فمن أجل التأكّد من أنّ الإلهام يأتي من الله، علينا الانغماس الدائم في الصلاة، والانتظار الصبور، والبحث الصادق والمقارنة مع نفوس خيّرة أُخرى، وإخضاع كلّ أمر لِرُعاة الكنيسة. لقد كان أسقف لياج تحديدًا، روبير من توروت، هو الذي وافق، بعد تردُّد أوّليّ، على اقتراح جوليانا ورفيقاتها، وأقام لأوّل مرّة الاحتفال بعيد جسد الربّ في أبرشيّته. واقتدى به أساقفة آخرون، في وقت لاحق، مؤسّسين العيد نفسه في الأراضي الموكلة إلى عنايتهم الراعويّة.
مع ذلك، كثيرًا ما يطلُب الربّ من القدّيسين تخطّي تجارب، لكي يزيد إيمانهم. وهذا ما حدث لجوليانا أيضًا، حيث اضطرّت إلى أن تعاني من معارضة مريرة من جانب بعض أعضاء الإكليروس ومن الرئيس الأعلى الذي كان يشرف على ديرها. لذلك تركت جوليانا، وبملء إرادتها، ديرَ مون كورنيّون مع بعض رفيقاتها، وحلّت ضيفةً لمدّة عشر سنوات، من عام 1248 حتّى عام 1258، لدى عدّة أديار من الراهبات الشسترشنسيّات. وكانت تُنمّي الجميع روحيًّا بتواضعها، ولم يكن لها أبدًا كلمات انتقاد أو تأنيب لِمناوئيها، بل كانت تنشر بِحماس عبادة القربان الأقدس. وافتها المنيّة عام 1258 في فوس لافيل، في بلجيكا. وفي الصومعة التي كانت ترقُد فيها وُضعَ القربان الأقدس وتوفّيت جوليانا، على حدّ تعبير كاتب سيرتها، وهي تتأمّل بِاندفاعة أخيرة من المحبّة يسوعَ الإفخارستيّ، الذي أحبّته وكرّمته وتعبّدت له دائمًا.
ولاقت دعوة عيد جسد الربّ نصيرًا في جاك بانتاليون من تروي، الذي كان قد تعرّف إلى القدّيسة خلال خدمته كَرئيس شمامسة لياج. وكان هو تحديدًا، بعد أن أصبح عام 1264 بابا تحت اسم أوربانوس الرابع، من أسّس الاحتفال بعيد جسد الربّ، كعيد إلزاميّ للكنيسة جمعاء، في الخميس الذي يلي العنصرة. وفي قرار التأسيس، الذي يحمل عنوان Transiturus de hoc mundo والصادر في 11 آب/أغسطس 1264 يستذكر البابا بِتحفّظ خبرات جوليانا التصوفيّة، مُقيِّمًا أصالتها، فيكتب: “على الرغم من أنّ القربان الأقدس يُحتفل به بوقار كلّ يوم، إلا أنّنا نرى أنّه من الصواب أن يُقام، على الأقلّ مرّة في السنة، تكريم هذه ذكرى بشكلٍ أكثر مهابة. فالأشياء الأخرى التي نكرِّم ذكراها، نعيها بالروح والعقل، لكنّنا لا نحصل لهذا السبب على حضورها الحقيقيّ. أمّا في إحياء ذكرى هذا الاحتفال الأسراريّ بالمسيح، وإن كان تحت شكلٍ آخر، فإنّ يسوع المسيح حاضرٌ معنا في جوهره. فقد قال بينما كان يهمّ بالصعود إلى السماء: “وها أنا معكُم كلَّ الأيّامِ إلى نهايةِ العالم” (متّى 28، 20).
وأراد البابا نفسه أن يعطي مِثالاً يُحتذى به من خلال الاحتفال بِعيد جسد الربّ في أورفييتو، المدينة التي كان يُقيم فيها. وبِأمرٍ منه بالتحديد كان يُحتفظ في كاتدرائيّة المدينة - ولا يزال - بِقطعة قماش القربان الشهيرة مع آثار المعجزة الإفخارستيّة التي حدثت العام السابق، عام 1263 ، في بولسينا. عندما كان يقدّس كاهنٌ الخبز والخمر، أتته شكوكٌ قويّة حول الحضور الحقيقيّ لجسد المسيح ودمه في سرّ القربان المقدّس. وفي أعجوبة، بدأت بضع قطرات من الدم تتدفّق من القربانة المقدّسة، مؤكدةً بهذه الطريقة ما يُعلن عنه إيماننا. وطلب أوربانوس الرابع من أحد أعظم اللاهوتيّين في التاريخ، القدّيس توما الأكوينيّ - الذي كان حينها يرافق البابا في أورفييتو - أن ينظم نصوص الصلوات الليتورجيّة لِهذا العيد الكبير. هذه النصوص، التي لا تزال تُستخدم في الكنيسة حتّى اليوم، هي أعمال باهرة، يختلط فيها اللاهوت بالشِعر. إنّها نصوص تضرب على أوتار القلب لتعبّر عن التسبيح والامتنان للقربان الأقدس، في حين أنّ العقل يعترف، وهو يلج بِاندهاش في السرّ، بالقربان الأقدس كحضور حيّ وحقيقيّ لِيسوع ولتضحية محبّته التي تُصالحنا مع الآب، وتُهبنا الخلاص.
ورغم أنَّ الاحتفال بِعيد القربان الأقدس اقتصر، بعد وفاة البابا أوربانوس الرابع، على بعض مناطق فرنسا وألمانيا وهنغاريا وشمال إيطاليا، إلا أنّ بابا آخر، هو يوحنا الثاني والعشرون، أعادهُ عام 1317 إلى كلّ الكنيسة. ومنذ ذلك الحين، عرف هذا العيد نموًّا رائعًا، ولا يزال يشعر به الشعب المسيحيّ.
أودّ أن أؤكِّد بفرح بأنّ هناك اليوم في الكنيسة “ربيعٌ إفخارستيّ”: كم من الناس يتوقّفون بِصمت أمام بيت القربان، للقيام بِمحادثة حبيّة مع يسوع! من المعزّي معرفة أنّ مجموعات كثيرة من الشباب قد اكتشفوا من جديد جمال الصلاة بالتعبّد أمام السرّ الأقدس. أفكِّر، على سبيل المثال، بتعبّدنا الإفخارستيّ في الهايد بارك بلندن. أصلّي كيما يعمّ هذا “الربيع” الإفخارستيّ أكثر فأكثر جميع الرعايا، خاصّة في بلجيكا، وطن القدّيسة جوليانا. لقد لاحظ المكرّم البابا يوحنّا بولس الثاني، في المنشور البابويّ “الكنيسة في الإفخارستيّا”، أنّ “التعبّد للقربان الأقدس يجد في العديد من الأماكن [...] مجالاً يوميًّا فسيحًا ويصبح مصدرًا لا ينضب من القداسة. إنّ مشاركة المؤمنين التقيّة في الزيّاح الإفخارستيّ في احتفال جسد المسيح ودمه لهي نعمةٌ من الرب، الذي يملأ سنويًّا بالفرح قلب مَن يشارك به. وتُمكن أيضًا الإشارة إلى علامات إيجابيّة أخرى من الإيمان والمحبة الافخارستية” (عدد 10).
نجدِّد نحن أيضًا، في ذكرى القديسة جوليانا من كورنيّون، إيماننا بالحضور الحقيقيّ للمسيح في الإفخارستيّا. وكما تعلّمنا خُلاصة التعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة، “يسوع المسيح حاضرٌ في القربان المقدّس بشكلٍ فريد لا يُضاهى. إنّه موجود بالفِعل بشكلٍ حقيقيّ وواقعيّ وجوهريّ: بِجسده ودمه، بِنفسه وألوهيّته. ولذلك فإنّ المسيح بأكمله، الله والإنسان، حاضرٌ فيه بِشكلٍ أسراريّ، أي تحت شكل الخبز والخمر” (عدد 282).
أيّها الأصدقاء الأعزّاء، إنّ الإخلاص للقاء المسيح الإفخارستيّ في قدّاس يوم الأحد جوهريّ في درب الإيمان، ولكن لِنحاول كذلك أن نذهب مرارًا وتكرارًا لزيارة الربّ الحاضر في بيت القربان! ففي تطلّعنا بتعبّد إلى القربانة المقدّسة، نلتقي بعطيّة محبّة الله، نلتقي بآلام وصليب يسوع، وكذلك أيضًا بِقيامته. من خلال تعبّدنا تحديدًا، يجذبنا الربّ نحوه، داخل سرّه، كي يحوّلنا كما يحوّل الخبز والخمر. لقد وجد القدّيسون دائمًا قوّة وتعزية وفرحًا في اللقاء الإفخارستيّ. ومع كلمات النشيد الإفخارستيّ Adoro te devote لِنُردِّد أمام الربّ الحاضر في السرّ الأقدس: “إجعلني اللهمّ أؤمن بك أكثر فأكثر، وآمُل بك وأحبّك!”. شكرًا.
وبعد أن يتِمت جوليانا في الخامسة من عمرها، أوكِلَت مع أختها أنييس إلى رعاية الراهبات الأغسطينيّات في دير مستشفى الجُذام Mont-Cornillon مون كورنيّون. فربّتها خاصّةً راهبةٌ، اسمها سابيانسا، تابعت نموّها الروحيّ، حتّى أبرزت جوليانا نذورها الرهبانيّة وأصبحت هي أيضًا راهبة أغسطينيّة. واكتسبت ثقافة عالية، لِدرجة أنّها كانت تقرأ أعمال آباء الكنيسة باللغة اللاتينيّة، وخاصّةً القدّيس أغسطينوس والقديس برناردوس. وأظهرت جوليانا منذ البداية، بالإضافة إلى ذكائها الحادّ، ميلا خاصّا نحو التأمّل؛ إذ كان لديها شعور عميق بِحضور المسيح كانت تختبره في عيشها سرّ الإفخارستيّا بشكلٍ عميق جدًّا وبتوقّفها غالبًا للتأمّل بِكلمات يسوع: “وها أنا معكُم كلَّ الأيّامِ إلى نهايةِ العالم” (متّى 28، 20).
جاءتها الرؤيا الأولى وهي في السادسة عشرة من عمرها، وتكرَّرت بعدها الرؤى عدّة مرّات في ساعات السجود الإفخارستيّة. وكانت الرؤيا تُظهر القمر في كلّ بهائه، مع شريط مُظلم يعبر قطره. وأفهمها الربّ معنى ما ظهر لها. فقد كان القمر يرمز إلى حياة الكنيسة على الأرض، أمّا الخطّ الأكمد فكان يمثِّل غياب عيد ليتورجيّ، طُلبَ من جوليانا أن تعمل لتأسيسه: عيدٍ يتمكّن فيه المؤمنون من أن يتعبّدوا للإفخارستيّا من أجل زيادة إيمانهم، والتقدّم في ممارسة الفضائل والتعويض عن الإهانات للقربان الأقدس.
ولحوالي عشرين سنة، أصبحت خلالها جوليانا رئيسة الدير، أبقت طيّ الكتمان على هذا الوحي، الذي ملأ قلبها بالفرح. ثمّ أسرّت به لاثنتَين من المتعبّدات المتحمّسات للإفخارستيّا، الطوباويّة إيفا، التي كانت تعيش حياة نسكيّة، وإيزابيلا، التي لاقتها إلى دير مون كورنيّون. وأنشأت النسوة الثلاث نوعًا من “التحالف الروحيّ”، بِقصد تمجيد القربان الأقدس. وأرَدنَ أن يُشرِكنَ كاهنًا مُقدَّرًا جدًّا، جان من لوزان، وهو كاهن قانونيّ في كنيسة القديس مارتينوس في لياج، ورجونَهُ أن يستفتي رجال اللاهوت والدين بخصوص ما يعزّ على قلوبهنَّ. وكانت الردود إيجابيّة ومشجّعة.
إنّ ما حدث لجوليانا من كورنيّون يتكرّر كثيرًا في حياة القدّيسين: فمن أجل التأكّد من أنّ الإلهام يأتي من الله، علينا الانغماس الدائم في الصلاة، والانتظار الصبور، والبحث الصادق والمقارنة مع نفوس خيّرة أُخرى، وإخضاع كلّ أمر لِرُعاة الكنيسة. لقد كان أسقف لياج تحديدًا، روبير من توروت، هو الذي وافق، بعد تردُّد أوّليّ، على اقتراح جوليانا ورفيقاتها، وأقام لأوّل مرّة الاحتفال بعيد جسد الربّ في أبرشيّته. واقتدى به أساقفة آخرون، في وقت لاحق، مؤسّسين العيد نفسه في الأراضي الموكلة إلى عنايتهم الراعويّة.
مع ذلك، كثيرًا ما يطلُب الربّ من القدّيسين تخطّي تجارب، لكي يزيد إيمانهم. وهذا ما حدث لجوليانا أيضًا، حيث اضطرّت إلى أن تعاني من معارضة مريرة من جانب بعض أعضاء الإكليروس ومن الرئيس الأعلى الذي كان يشرف على ديرها. لذلك تركت جوليانا، وبملء إرادتها، ديرَ مون كورنيّون مع بعض رفيقاتها، وحلّت ضيفةً لمدّة عشر سنوات، من عام 1248 حتّى عام 1258، لدى عدّة أديار من الراهبات الشسترشنسيّات. وكانت تُنمّي الجميع روحيًّا بتواضعها، ولم يكن لها أبدًا كلمات انتقاد أو تأنيب لِمناوئيها، بل كانت تنشر بِحماس عبادة القربان الأقدس. وافتها المنيّة عام 1258 في فوس لافيل، في بلجيكا. وفي الصومعة التي كانت ترقُد فيها وُضعَ القربان الأقدس وتوفّيت جوليانا، على حدّ تعبير كاتب سيرتها، وهي تتأمّل بِاندفاعة أخيرة من المحبّة يسوعَ الإفخارستيّ، الذي أحبّته وكرّمته وتعبّدت له دائمًا.
ولاقت دعوة عيد جسد الربّ نصيرًا في جاك بانتاليون من تروي، الذي كان قد تعرّف إلى القدّيسة خلال خدمته كَرئيس شمامسة لياج. وكان هو تحديدًا، بعد أن أصبح عام 1264 بابا تحت اسم أوربانوس الرابع، من أسّس الاحتفال بعيد جسد الربّ، كعيد إلزاميّ للكنيسة جمعاء، في الخميس الذي يلي العنصرة. وفي قرار التأسيس، الذي يحمل عنوان Transiturus de hoc mundo والصادر في 11 آب/أغسطس 1264 يستذكر البابا بِتحفّظ خبرات جوليانا التصوفيّة، مُقيِّمًا أصالتها، فيكتب: “على الرغم من أنّ القربان الأقدس يُحتفل به بوقار كلّ يوم، إلا أنّنا نرى أنّه من الصواب أن يُقام، على الأقلّ مرّة في السنة، تكريم هذه ذكرى بشكلٍ أكثر مهابة. فالأشياء الأخرى التي نكرِّم ذكراها، نعيها بالروح والعقل، لكنّنا لا نحصل لهذا السبب على حضورها الحقيقيّ. أمّا في إحياء ذكرى هذا الاحتفال الأسراريّ بالمسيح، وإن كان تحت شكلٍ آخر، فإنّ يسوع المسيح حاضرٌ معنا في جوهره. فقد قال بينما كان يهمّ بالصعود إلى السماء: “وها أنا معكُم كلَّ الأيّامِ إلى نهايةِ العالم” (متّى 28، 20).
وأراد البابا نفسه أن يعطي مِثالاً يُحتذى به من خلال الاحتفال بِعيد جسد الربّ في أورفييتو، المدينة التي كان يُقيم فيها. وبِأمرٍ منه بالتحديد كان يُحتفظ في كاتدرائيّة المدينة - ولا يزال - بِقطعة قماش القربان الشهيرة مع آثار المعجزة الإفخارستيّة التي حدثت العام السابق، عام 1263 ، في بولسينا. عندما كان يقدّس كاهنٌ الخبز والخمر، أتته شكوكٌ قويّة حول الحضور الحقيقيّ لجسد المسيح ودمه في سرّ القربان المقدّس. وفي أعجوبة، بدأت بضع قطرات من الدم تتدفّق من القربانة المقدّسة، مؤكدةً بهذه الطريقة ما يُعلن عنه إيماننا. وطلب أوربانوس الرابع من أحد أعظم اللاهوتيّين في التاريخ، القدّيس توما الأكوينيّ - الذي كان حينها يرافق البابا في أورفييتو - أن ينظم نصوص الصلوات الليتورجيّة لِهذا العيد الكبير. هذه النصوص، التي لا تزال تُستخدم في الكنيسة حتّى اليوم، هي أعمال باهرة، يختلط فيها اللاهوت بالشِعر. إنّها نصوص تضرب على أوتار القلب لتعبّر عن التسبيح والامتنان للقربان الأقدس، في حين أنّ العقل يعترف، وهو يلج بِاندهاش في السرّ، بالقربان الأقدس كحضور حيّ وحقيقيّ لِيسوع ولتضحية محبّته التي تُصالحنا مع الآب، وتُهبنا الخلاص.
ورغم أنَّ الاحتفال بِعيد القربان الأقدس اقتصر، بعد وفاة البابا أوربانوس الرابع، على بعض مناطق فرنسا وألمانيا وهنغاريا وشمال إيطاليا، إلا أنّ بابا آخر، هو يوحنا الثاني والعشرون، أعادهُ عام 1317 إلى كلّ الكنيسة. ومنذ ذلك الحين، عرف هذا العيد نموًّا رائعًا، ولا يزال يشعر به الشعب المسيحيّ.
أودّ أن أؤكِّد بفرح بأنّ هناك اليوم في الكنيسة “ربيعٌ إفخارستيّ”: كم من الناس يتوقّفون بِصمت أمام بيت القربان، للقيام بِمحادثة حبيّة مع يسوع! من المعزّي معرفة أنّ مجموعات كثيرة من الشباب قد اكتشفوا من جديد جمال الصلاة بالتعبّد أمام السرّ الأقدس. أفكِّر، على سبيل المثال، بتعبّدنا الإفخارستيّ في الهايد بارك بلندن. أصلّي كيما يعمّ هذا “الربيع” الإفخارستيّ أكثر فأكثر جميع الرعايا، خاصّة في بلجيكا، وطن القدّيسة جوليانا. لقد لاحظ المكرّم البابا يوحنّا بولس الثاني، في المنشور البابويّ “الكنيسة في الإفخارستيّا”، أنّ “التعبّد للقربان الأقدس يجد في العديد من الأماكن [...] مجالاً يوميًّا فسيحًا ويصبح مصدرًا لا ينضب من القداسة. إنّ مشاركة المؤمنين التقيّة في الزيّاح الإفخارستيّ في احتفال جسد المسيح ودمه لهي نعمةٌ من الرب، الذي يملأ سنويًّا بالفرح قلب مَن يشارك به. وتُمكن أيضًا الإشارة إلى علامات إيجابيّة أخرى من الإيمان والمحبة الافخارستية” (عدد 10).
نجدِّد نحن أيضًا، في ذكرى القديسة جوليانا من كورنيّون، إيماننا بالحضور الحقيقيّ للمسيح في الإفخارستيّا. وكما تعلّمنا خُلاصة التعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة، “يسوع المسيح حاضرٌ في القربان المقدّس بشكلٍ فريد لا يُضاهى. إنّه موجود بالفِعل بشكلٍ حقيقيّ وواقعيّ وجوهريّ: بِجسده ودمه، بِنفسه وألوهيّته. ولذلك فإنّ المسيح بأكمله، الله والإنسان، حاضرٌ فيه بِشكلٍ أسراريّ، أي تحت شكل الخبز والخمر” (عدد 282).
أيّها الأصدقاء الأعزّاء، إنّ الإخلاص للقاء المسيح الإفخارستيّ في قدّاس يوم الأحد جوهريّ في درب الإيمان، ولكن لِنحاول كذلك أن نذهب مرارًا وتكرارًا لزيارة الربّ الحاضر في بيت القربان! ففي تطلّعنا بتعبّد إلى القربانة المقدّسة، نلتقي بعطيّة محبّة الله، نلتقي بآلام وصليب يسوع، وكذلك أيضًا بِقيامته. من خلال تعبّدنا تحديدًا، يجذبنا الربّ نحوه، داخل سرّه، كي يحوّلنا كما يحوّل الخبز والخمر. لقد وجد القدّيسون دائمًا قوّة وتعزية وفرحًا في اللقاء الإفخارستيّ. ومع كلمات النشيد الإفخارستيّ Adoro te devote لِنُردِّد أمام الربّ الحاضر في السرّ الأقدس: “إجعلني اللهمّ أؤمن بك أكثر فأكثر، وآمُل بك وأحبّك!”. شكرًا.