إخوتي وأخواتي الأعزّاء،
أودّ اليوم أن أقدِّم لكم متصوّفة من غير القرونالوسطى؛ هي القديسة فيرونيكا جولياني، راهبة كلاريس كبّوشيّة. والسبب هوأنّ السابع والعشرين من كانون الأوّل/ديسمبر المُقبل يوافق الذكرى الـ 350لولادتها. تعيش بفرح هذا الحدث مدينة كاستيلّو، حيث عاشت أطول فترة وماتت،وكذلك ميركاتيلّو- مسقط رأسها - وأبرشيّة أوربينو.
أودّ اليوم أن أقدِّم لكم متصوّفة من غير القرونالوسطى؛ هي القديسة فيرونيكا جولياني، راهبة كلاريس كبّوشيّة. والسبب هوأنّ السابع والعشرين من كانون الأوّل/ديسمبر المُقبل يوافق الذكرى الـ 350لولادتها. تعيش بفرح هذا الحدث مدينة كاستيلّو، حيث عاشت أطول فترة وماتت،وكذلك ميركاتيلّو- مسقط رأسها - وأبرشيّة أوربينو.
ولدت فيرونيكا إذًا في 27 كانون الأوّل/ديسمبر 1660 فيميركاتيلّو، في وادي نهر ميتاورو، من فرانشيسكو جولياني وبينيديتّامانشيني؛ وهي الصغرى بين شقيقات سبعة، اعتنقت ثلاثة أُخريات منهنَّ الحياةالرهبانيّة؛ وأُطلق عليها اسم أورسولا. وفي سنّ السابعة، فقدت والدتهاوانتقل والدها إلى بياتشينسا كمُراقب للجمارك في دوقيّة بارما. وفي هذهالمدينة، شعرت أورسولا بشكلٍ متزايد بالرغبة في تكريس حياتها للمسيح. وأصبحت الدعوة أكثر إلحاحًا، حتّى أنّها في دخلت السابعة عشرة من عمرها ديرالراهبات الحبيسات للكلاريس الكبّوشيّات في مدينة كاستيلّو، حيث بقيت طوالحياتها. وهناك تسمّت باسم فيرونيكا، ومعناه “الصورة الحقيقيّة”، وهيبالفعل سوف تصبح صورة حقيقيّة للمسيح المصلوب. وبعد سنة أبرزت النذورالرهبانيّة: لقد بدأ بالنسبة إليها درب الاقتداء بالمسيح من خلال تكفيراتكثيرة، ومعاناة كبيرة وبعض الخبرات الصوفيّة المتّصلة بآلام يسوع: إكليلالشوك، والعرس الصوفيّ، والجرح في القلب والندبات. وفي عام 1716، فيالسادسة والخمسين من عمرها، أصبحت رئيسة الدير وبقيَت في هذا المنصب حتّىوفاتها عام 1727، بعد نزاع أليم جدًّا دام 33 يومًا، بلغ ذروته في فرحعميق، لدرجة أنّ كلماتها الأخيرة كانت: “لقد وجدت المحبّة، والمحبّة جعلتنفسها مرئيّة!! هذا هو سبب مُعاناتي. أخبروا الجميع بهذا، أخبروا الجميعبهذا” (Summarium Beatificationis، 115-120). وفي يوم 9 تموز/ يوليو، تركتالحياة الأرضيّة للقاء الله. كان لها من العمر 67 سنة، قضت منها خمسين سنةفي دير مدينة كاستيلّو. وأعلنها البابا غريغوريوس السادس عشر قدّيسة في 26أيار/مايو 1839.
كتبت فيرونيكا جولياني كثيرًا: رسائل وسَرد علاقاتخاصّة وقصائد. بيد أنّ المصدر الرئيسي لإعادة صياغة تفكيرها، هي يوميّاتها،التي بدأت بها في عام 1693: اثنان وعشرون ألف صفحة مكتوبة بخطّ يدها،تُغطّي فترة أربعة وثلاثين عامًا من الحياة الحبيسة. تنساب الكتابةبِعفويّة متواصلة، فلا محوَ أو تصحيحات، ولا قواطِع وفواصِل أو توزيعللمادّة إلى فصول أو أجزاء وفقًا لِتصميم مُحدَّد سلفًا. لم تكن فيرونيكاترغب بتأليف عمل أدبيّ، بل على العكس، لقد أجبرها على كتابة خبراتها الأبجيرولامو باستيانيلّي، راهب الفيلبّينيّين، بالاتّفاق مع أسقف الأبرشيةأنطونيو إوستاكي.
للقدّيسة فيرونيكا روحانيّةٌ كريستولوجيّة عُرسيّةبارزة: خبرة أن تكون محبوبة من المسيح، الزوج المُخلِص الصادق، وهي تريد أنتتطابق مع محبّة تُشركها وتُفتِنها أكثر فأكثر. فكلُّ شيء يُفسَّر بالنسبةإليها من خلال المحبّة، ما ينشر فيها صفاءً عميقًا. كلّ شيء يُعاشبِالاتّحاد مع المسيح، وبدافع محبّته، وبفرح إمكاننا إظهار كلّ المحبّةالتي يقدر عليها مخلوق تجاهه.
إنّ المسيح الذي تتَّحِد به فيرونيكا بعمق هو المسيحالمتألِّم في آلامه وموته وقيامته؛ إنّه يسوع في تقديم نفسه ذبيحة إلى الآبكي يُخلّصنا. ينجم عن هذه الخبرة أيضًا المحبّة الشديدة والمتألّمةللكنيسة، في الشكل المزدوج للصلاة والتقدمة. فالقدّيسة تعيش في هذاالمنظور: تُصلّي وتتألّم وتبحث عن “الفقر المقدّس” كَـ “نزع ملكيّة”،وفقدان الذات (المرجع نفسه، القصل الثالث، 523)، كي تكون فعلاً كالمسيح،الذي بذل كلّ ذاته.
في كلّ صفحة من صفحات كتاباتها توكل فيرونيكا شخصًاإلى الربّ، مُقيّمةً صلواتها التشفعيّة بِتقديم ذاتها لكلّ ألم. فقلبهايتّسع لجميع “احتياجات الكنيسة المقدّسة”، وهي تعيش بِقلق في رغبة خلاص “كلّ الكون العالم” (المرجع نفسه، الفصلين الثالث والرابع). وتصرخ فيرونيكا “أيّها الخطأة، أيّتها الخاطئات... تعالوا جميعكم جميعكنّ إلى قلب يسوع؛تعالوا إلى غَسل دمه الثمين جدًّا... إنّه ينتظركم بذراعَين مفتوحتينلِيُعانقكم” (المرجع نفسه، الفصل الثاني، 16-17). وإذ تُحييها محبّةمتّقدة، تمنح الأخوات في الدير الاهتمام والتفهُّم والغفران؛ وتقدِّمصلواتها وتضحياتها للبابا وأسقفها والكهنة وجميع الناس المُحتاجين، بمنفيهم نفوس المَطهَر. وهي تُلخِّص مهمّتها التأمّليّة بهذه الكلمات: “لايمكننا التنقّل للوعظ في العالم من أجل هداية النفوس، لكنّنا مُجبَرات علىالصلاة باستمرار من أجل كافّة أرواح الذين أساءوا إلى الله... خصوصًابِمُعاناتنا، أي بِمبدأ حياة مصلوبة" (المرجع نفسه، الفصل الرابع، 877). وتُدرك قدّيستنا هذه المهمّة كـ “وقوفٍ بين” البشر والله، بين الخطأةوالمسيح المصلوب.
لقد عاشت فيرونيكا المشاركة بالمحبّة المتألّمة لِيسوعبطريقة عميقة، وهي على يقين من أنّ “التألّم بِفرح” هو “مفتاح المحبّة” (المرجع نفسه، الفصل الأوّل، 299.417 ؛ الفصل الثالث، 330.303.871 ، الفصلالرابع، 192). وهي توضِح أنّ يسوع تألّم من أجل خطايا البشر، ولكن أيضًاللمعاناة التي سيضطرّ المؤمنون إلى تحمّلها على مرّ القرون، في زمنالكنيسة، بسبب إيمانهم القويّ والمُلتزم تحديدًا. وتكتب: “لقد أراه أبوهالسرمديّ وأسمعه في تلك اللحظة كلَّ معاناةٍ كان عليهم أن يعانوهامُختاروه، أعزّ النفوس عليه، أي تلك التي من شأنها الاستفادة من دمه وكلّآلامه” (المرجع نفسه، الفصل الثاني ،170). كما يقول الرسول بولس عن نفسه: “إنّي أفرح الآن بالآلام التي أُعانيها من أجلكم، وأُتِمُّ في جسدي ما نقصمن مضايق المسيح، من أجل جسده الذي هو الكنيسة” (الرسالة إلى أهل كولوسّي 1، 24). وتوصّلت فيرونيكا لأن تطلب من يسوع أن تُصلَب معه: فتكتب “وفيلحظة، رأيت أنّ شُعاعات ساطعة خرجت من جراحه الخمس؛ وأتت كلُّها صوبي. ورأيت هذه الشعاعات تصير كشعلات صغيرة. كانت هناك في أربع منها المسامير؛وفي واحدة الحربة، كالذهب مشتعلة بكاملها: واخترقت قلبي، من جهة لأخرى... ومرّت المسامير يديَّ ورجليّ. شعرت بألمٍ كبير؛ ولكن في الألم نفسه، كنتأرى وأشعر بنفسي متحوّلةً كليًّا إلى الله” (مذكّرات، القصل الأوّل، 897).
اقتنعت القدّيسة بالمشاركة منذ الآن في ملكوت الله،ولكنّها تبتهل في الوقت نفسه إلى جميع قدّيسي الوطن المُبارك كي يساعدوهافي بذل ذاتها على الدرب الأرضيّ، بانتظار السعادة الأبديّة؛ هذا هو الطموحالثابت في حياتها (المرجع نفسه، الفصل الثاني، 909 ؛ الفصل الخامس، 246). وبالمقارنة مع وعظ تلك الأزمنة، الذي غالبًا ما كان يركِّز على “خلاصالنفس” بِعبارات فرديّة، تُظهِر فيرونيكا حِسًّا “تضامنيًّا” قويًّا، وفيالشركة مع جميع الإخوة والأخوات في طريقهم نحو السماء، وتعيش وتصلّيوتتألّم من أجل الجميع. أمّا الأشياء الأخرى، الأرضيّة، وإن كانت محطّتقدير بالمعنى الفرنسيسكانيّ كَهبة من الخالق، فهي دائمًا نسبيّة، وخاضعةبالكامل لـ “ذوق” الله وتحت سِمة الفقر الجذريّ. توضِح في الشركة المقدّسة communio sanctorum بذلها الكنسيّ، والعلاقة بين الكنيسة الحاجّة والكنيسةالسماويّة. فتكتب: “جميع القدّيسين هم هنالك فوق بفضل استحقاقات يسوعوآلامه؛ لكنّهم تعاونوا مع ربّنا في كلّ ما قام به، بحيث أنّ حياتهم كانتكلّها مُرتّبة، تنظِّمها أعماله نفسها” (المرجع نفسه، الفصل الثالث، 203).
نجد في كتابات فيرونيكا العديد من الاستشهاداتالمأخوذة من الكتاب المقدّس، بشكلٍ غير مباشر أحيانًا، ولكن دائمًا فيالوقت الملائم: فهي تكشف عن ألفة مع الكتابات المقدّسة، التي تقتات منهاخبرتها الروحيّة. وتجدر الإشارة أيضًا إلى أنّ الأوقات القويّة لتجربةفيرونيكا الصوفيّة لا تنفصل أبدًا عن الأحداث الخلاصيّة التي تحتفل بهاالليتورجيا، حيث لإعلان كلمة الله والاستماع مكانٌ خاصّ. فالكتاب المقدّسيُنير خبرة فيرونيكا وينقّيها ويُثبِّتها، فيجعلها خبرة كنسيّة. لكنّخبرتها الخاصّة تحديدًا، المرتكزة إلى الكتاب المقدّس بِقوّة غيراعتياديّة، تقود من ناحية أُخرى إلى قراءة أعمق و“روحانيّة” أكثر للنصّنفسه، فتدخل العمق الخفيّ للنص. إنّها لا تعبِّر بكلمات الكتاب المقدّسفحسب، بل تعيش أيضًا من هذه الكلمات، فتصبح حياة فيها.
تستشهد قديستنا كثيرًا، على سبيل المثال، بِقول بولسالرسول: "إذا كان الله معنا، فمَن علينا؟" (الرسالة إلى أهل روما 8، 31 ؛راجع يوميّات، الفصل الأوّل، 714؛ الفصل الثاني، 116. 1021، الفصل الثالث، 48). وفيها يصبح استيعاب هذا النصّ البولسيّ، وثقتها الكبيرة هذه وفرحهاالعميق، أمرًا واقعًا في شخصها: تكتب “ارتبطت نفسي مع الإرادة الإلهيّةوأنا ترسَّختُ وثبتُّ حقًّا في إرادة الله، كان يبدو لي أنّني لن أبتعد عنإرادة الله هذه وَعدتُّ إلى نفسي بهذه الكلمات بالضبط: لا شيء يمكنه أنيفصلني عن إرادة الله، لا ضيق، ولا ألم، ولا شقاء، ولا ازدراء، ولا تجارب،ولا مخلوقات، ولا شياطين، ولا ظُلُمات، ولا حتّىالموت نفسه لأنّني، فيالحياة وفي الموت، أريد كلّ شيء، وفي كلّ شيء، إرادة الله" (يوميّات، الفصلالرابع، 272). وهكذا نحن في اليقين أيضًا بأنّ الموت ليس صاحب الكلمةالأخيرة، فنثبت في مشيئة الله و، في الواقع، في الحياة إلى الأبد.
تبدو فيرونيكا، على وجه الخصوص، شاهدة شجاعة على جمالوقدرة المحبّة الإلهيّة، التي تجذبها وتنفذ إليها، وتُضرم نارها فيها. إنّها المحبّة المصلوبة التي انطبعت في جسدها، كما في جسد القدّيس فرنسيسالأسّيزي، مع ندبات يسوع. “يهمس إليّ المسيح المصلوب: يا عروستي، عزيزةٌعليَّ التكفيرات التي تقومين بها من أجل الذين هم خارج نعمتي... ثمّ سحبذراعه من عن الصليب وأومأ إليَّ أن أدنو إلى جنبه... ووجدت نفسي بين ذراعَيالمصلوب. لا استطيع أن أُخبركم بِما شعرت به في تلك اللحظة: كان بودّي لوأبقى دومًا في جنبه الأقدس” (المرجع نفسه، الفصل الأوّل،37). إنّها أيضًاصورة عن دربها الروحيّ، وعن حياتها الداخليّة: البقاء في حضن المصلوب،والبقاء بالتالي في محبّة المسيح للآخرين. وعاشت فيرونيكا مع العذراء مريمأيضًا علاقة حميميّة عميقة، تشهد لها الكلمات التي سمعتها يومًا ما منالسيدّة العذراء والتي دوّنتها في يوميّاتها: “أنا أرحتكِ في صدري، فتمّ لكالاتّحاد بنفسي التي حملَتك وطارت بكِ إلى لدن الله” (القصل الرابع، 901).
تدعونا القدّيسة فيرونيكا جولياني إلى تنمية الاتّحاد بالربّ، في حياتناالمسيحيّة، في تكريس أنفسنا للآخرين، وإلى تسليم أنفسنا لإرادته بثقة تامّةكاملة، والاتّحاد بالكنيسة، عروس المسيح؛ إنّها تدعونا إلى المشاركة فيالمحبّة المتألّمة لِيسوع المصلوب من أجل خلاص كلّ الخطأة؛ وتدعونا لنحدِّقبالجنّة، هدف دربنا الأرضيّ، حيث سنعيش، جنبًا إلى جنب مع العديد منالإخوة والأخوات، فرحة الشركة الكاملة مع الله؛ وتدعونا لِنقتات يوميًّا منكلمة الله لتدفئة قلبنا وتوجيه حياتنا. يُمكن اعتبار الكلمات الأخيرةللقدّيسة خلاصةَ خبرتها الصوفيّة المولعة: “لقد وجدتُ المحبّة، المحبّةجعلت نفسها مرئيّة!”. شكرًا.
كتبت فيرونيكا جولياني كثيرًا: رسائل وسَرد علاقاتخاصّة وقصائد. بيد أنّ المصدر الرئيسي لإعادة صياغة تفكيرها، هي يوميّاتها،التي بدأت بها في عام 1693: اثنان وعشرون ألف صفحة مكتوبة بخطّ يدها،تُغطّي فترة أربعة وثلاثين عامًا من الحياة الحبيسة. تنساب الكتابةبِعفويّة متواصلة، فلا محوَ أو تصحيحات، ولا قواطِع وفواصِل أو توزيعللمادّة إلى فصول أو أجزاء وفقًا لِتصميم مُحدَّد سلفًا. لم تكن فيرونيكاترغب بتأليف عمل أدبيّ، بل على العكس، لقد أجبرها على كتابة خبراتها الأبجيرولامو باستيانيلّي، راهب الفيلبّينيّين، بالاتّفاق مع أسقف الأبرشيةأنطونيو إوستاكي.
للقدّيسة فيرونيكا روحانيّةٌ كريستولوجيّة عُرسيّةبارزة: خبرة أن تكون محبوبة من المسيح، الزوج المُخلِص الصادق، وهي تريد أنتتطابق مع محبّة تُشركها وتُفتِنها أكثر فأكثر. فكلُّ شيء يُفسَّر بالنسبةإليها من خلال المحبّة، ما ينشر فيها صفاءً عميقًا. كلّ شيء يُعاشبِالاتّحاد مع المسيح، وبدافع محبّته، وبفرح إمكاننا إظهار كلّ المحبّةالتي يقدر عليها مخلوق تجاهه.
إنّ المسيح الذي تتَّحِد به فيرونيكا بعمق هو المسيحالمتألِّم في آلامه وموته وقيامته؛ إنّه يسوع في تقديم نفسه ذبيحة إلى الآبكي يُخلّصنا. ينجم عن هذه الخبرة أيضًا المحبّة الشديدة والمتألّمةللكنيسة، في الشكل المزدوج للصلاة والتقدمة. فالقدّيسة تعيش في هذاالمنظور: تُصلّي وتتألّم وتبحث عن “الفقر المقدّس” كَـ “نزع ملكيّة”،وفقدان الذات (المرجع نفسه، القصل الثالث، 523)، كي تكون فعلاً كالمسيح،الذي بذل كلّ ذاته.
في كلّ صفحة من صفحات كتاباتها توكل فيرونيكا شخصًاإلى الربّ، مُقيّمةً صلواتها التشفعيّة بِتقديم ذاتها لكلّ ألم. فقلبهايتّسع لجميع “احتياجات الكنيسة المقدّسة”، وهي تعيش بِقلق في رغبة خلاص “كلّ الكون العالم” (المرجع نفسه، الفصلين الثالث والرابع). وتصرخ فيرونيكا “أيّها الخطأة، أيّتها الخاطئات... تعالوا جميعكم جميعكنّ إلى قلب يسوع؛تعالوا إلى غَسل دمه الثمين جدًّا... إنّه ينتظركم بذراعَين مفتوحتينلِيُعانقكم” (المرجع نفسه، الفصل الثاني، 16-17). وإذ تُحييها محبّةمتّقدة، تمنح الأخوات في الدير الاهتمام والتفهُّم والغفران؛ وتقدِّمصلواتها وتضحياتها للبابا وأسقفها والكهنة وجميع الناس المُحتاجين، بمنفيهم نفوس المَطهَر. وهي تُلخِّص مهمّتها التأمّليّة بهذه الكلمات: “لايمكننا التنقّل للوعظ في العالم من أجل هداية النفوس، لكنّنا مُجبَرات علىالصلاة باستمرار من أجل كافّة أرواح الذين أساءوا إلى الله... خصوصًابِمُعاناتنا، أي بِمبدأ حياة مصلوبة" (المرجع نفسه، الفصل الرابع، 877). وتُدرك قدّيستنا هذه المهمّة كـ “وقوفٍ بين” البشر والله، بين الخطأةوالمسيح المصلوب.
لقد عاشت فيرونيكا المشاركة بالمحبّة المتألّمة لِيسوعبطريقة عميقة، وهي على يقين من أنّ “التألّم بِفرح” هو “مفتاح المحبّة” (المرجع نفسه، الفصل الأوّل، 299.417 ؛ الفصل الثالث، 330.303.871 ، الفصلالرابع، 192). وهي توضِح أنّ يسوع تألّم من أجل خطايا البشر، ولكن أيضًاللمعاناة التي سيضطرّ المؤمنون إلى تحمّلها على مرّ القرون، في زمنالكنيسة، بسبب إيمانهم القويّ والمُلتزم تحديدًا. وتكتب: “لقد أراه أبوهالسرمديّ وأسمعه في تلك اللحظة كلَّ معاناةٍ كان عليهم أن يعانوهامُختاروه، أعزّ النفوس عليه، أي تلك التي من شأنها الاستفادة من دمه وكلّآلامه” (المرجع نفسه، الفصل الثاني ،170). كما يقول الرسول بولس عن نفسه: “إنّي أفرح الآن بالآلام التي أُعانيها من أجلكم، وأُتِمُّ في جسدي ما نقصمن مضايق المسيح، من أجل جسده الذي هو الكنيسة” (الرسالة إلى أهل كولوسّي 1، 24). وتوصّلت فيرونيكا لأن تطلب من يسوع أن تُصلَب معه: فتكتب “وفيلحظة، رأيت أنّ شُعاعات ساطعة خرجت من جراحه الخمس؛ وأتت كلُّها صوبي. ورأيت هذه الشعاعات تصير كشعلات صغيرة. كانت هناك في أربع منها المسامير؛وفي واحدة الحربة، كالذهب مشتعلة بكاملها: واخترقت قلبي، من جهة لأخرى... ومرّت المسامير يديَّ ورجليّ. شعرت بألمٍ كبير؛ ولكن في الألم نفسه، كنتأرى وأشعر بنفسي متحوّلةً كليًّا إلى الله” (مذكّرات، القصل الأوّل، 897).
اقتنعت القدّيسة بالمشاركة منذ الآن في ملكوت الله،ولكنّها تبتهل في الوقت نفسه إلى جميع قدّيسي الوطن المُبارك كي يساعدوهافي بذل ذاتها على الدرب الأرضيّ، بانتظار السعادة الأبديّة؛ هذا هو الطموحالثابت في حياتها (المرجع نفسه، الفصل الثاني، 909 ؛ الفصل الخامس، 246). وبالمقارنة مع وعظ تلك الأزمنة، الذي غالبًا ما كان يركِّز على “خلاصالنفس” بِعبارات فرديّة، تُظهِر فيرونيكا حِسًّا “تضامنيًّا” قويًّا، وفيالشركة مع جميع الإخوة والأخوات في طريقهم نحو السماء، وتعيش وتصلّيوتتألّم من أجل الجميع. أمّا الأشياء الأخرى، الأرضيّة، وإن كانت محطّتقدير بالمعنى الفرنسيسكانيّ كَهبة من الخالق، فهي دائمًا نسبيّة، وخاضعةبالكامل لـ “ذوق” الله وتحت سِمة الفقر الجذريّ. توضِح في الشركة المقدّسة communio sanctorum بذلها الكنسيّ، والعلاقة بين الكنيسة الحاجّة والكنيسةالسماويّة. فتكتب: “جميع القدّيسين هم هنالك فوق بفضل استحقاقات يسوعوآلامه؛ لكنّهم تعاونوا مع ربّنا في كلّ ما قام به، بحيث أنّ حياتهم كانتكلّها مُرتّبة، تنظِّمها أعماله نفسها” (المرجع نفسه، الفصل الثالث، 203).
نجد في كتابات فيرونيكا العديد من الاستشهاداتالمأخوذة من الكتاب المقدّس، بشكلٍ غير مباشر أحيانًا، ولكن دائمًا فيالوقت الملائم: فهي تكشف عن ألفة مع الكتابات المقدّسة، التي تقتات منهاخبرتها الروحيّة. وتجدر الإشارة أيضًا إلى أنّ الأوقات القويّة لتجربةفيرونيكا الصوفيّة لا تنفصل أبدًا عن الأحداث الخلاصيّة التي تحتفل بهاالليتورجيا، حيث لإعلان كلمة الله والاستماع مكانٌ خاصّ. فالكتاب المقدّسيُنير خبرة فيرونيكا وينقّيها ويُثبِّتها، فيجعلها خبرة كنسيّة. لكنّخبرتها الخاصّة تحديدًا، المرتكزة إلى الكتاب المقدّس بِقوّة غيراعتياديّة، تقود من ناحية أُخرى إلى قراءة أعمق و“روحانيّة” أكثر للنصّنفسه، فتدخل العمق الخفيّ للنص. إنّها لا تعبِّر بكلمات الكتاب المقدّسفحسب، بل تعيش أيضًا من هذه الكلمات، فتصبح حياة فيها.
تستشهد قديستنا كثيرًا، على سبيل المثال، بِقول بولسالرسول: "إذا كان الله معنا، فمَن علينا؟" (الرسالة إلى أهل روما 8، 31 ؛راجع يوميّات، الفصل الأوّل، 714؛ الفصل الثاني، 116. 1021، الفصل الثالث، 48). وفيها يصبح استيعاب هذا النصّ البولسيّ، وثقتها الكبيرة هذه وفرحهاالعميق، أمرًا واقعًا في شخصها: تكتب “ارتبطت نفسي مع الإرادة الإلهيّةوأنا ترسَّختُ وثبتُّ حقًّا في إرادة الله، كان يبدو لي أنّني لن أبتعد عنإرادة الله هذه وَعدتُّ إلى نفسي بهذه الكلمات بالضبط: لا شيء يمكنه أنيفصلني عن إرادة الله، لا ضيق، ولا ألم، ولا شقاء، ولا ازدراء، ولا تجارب،ولا مخلوقات، ولا شياطين، ولا ظُلُمات، ولا حتّىالموت نفسه لأنّني، فيالحياة وفي الموت، أريد كلّ شيء، وفي كلّ شيء، إرادة الله" (يوميّات، الفصلالرابع، 272). وهكذا نحن في اليقين أيضًا بأنّ الموت ليس صاحب الكلمةالأخيرة، فنثبت في مشيئة الله و، في الواقع، في الحياة إلى الأبد.
تبدو فيرونيكا، على وجه الخصوص، شاهدة شجاعة على جمالوقدرة المحبّة الإلهيّة، التي تجذبها وتنفذ إليها، وتُضرم نارها فيها. إنّها المحبّة المصلوبة التي انطبعت في جسدها، كما في جسد القدّيس فرنسيسالأسّيزي، مع ندبات يسوع. “يهمس إليّ المسيح المصلوب: يا عروستي، عزيزةٌعليَّ التكفيرات التي تقومين بها من أجل الذين هم خارج نعمتي... ثمّ سحبذراعه من عن الصليب وأومأ إليَّ أن أدنو إلى جنبه... ووجدت نفسي بين ذراعَيالمصلوب. لا استطيع أن أُخبركم بِما شعرت به في تلك اللحظة: كان بودّي لوأبقى دومًا في جنبه الأقدس” (المرجع نفسه، الفصل الأوّل،37). إنّها أيضًاصورة عن دربها الروحيّ، وعن حياتها الداخليّة: البقاء في حضن المصلوب،والبقاء بالتالي في محبّة المسيح للآخرين. وعاشت فيرونيكا مع العذراء مريمأيضًا علاقة حميميّة عميقة، تشهد لها الكلمات التي سمعتها يومًا ما منالسيدّة العذراء والتي دوّنتها في يوميّاتها: “أنا أرحتكِ في صدري، فتمّ لكالاتّحاد بنفسي التي حملَتك وطارت بكِ إلى لدن الله” (القصل الرابع، 901).
تدعونا القدّيسة فيرونيكا جولياني إلى تنمية الاتّحاد بالربّ، في حياتناالمسيحيّة، في تكريس أنفسنا للآخرين، وإلى تسليم أنفسنا لإرادته بثقة تامّةكاملة، والاتّحاد بالكنيسة، عروس المسيح؛ إنّها تدعونا إلى المشاركة فيالمحبّة المتألّمة لِيسوع المصلوب من أجل خلاص كلّ الخطأة؛ وتدعونا لنحدِّقبالجنّة، هدف دربنا الأرضيّ، حيث سنعيش، جنبًا إلى جنب مع العديد منالإخوة والأخوات، فرحة الشركة الكاملة مع الله؛ وتدعونا لِنقتات يوميًّا منكلمة الله لتدفئة قلبنا وتوجيه حياتنا. يُمكن اعتبار الكلمات الأخيرةللقدّيسة خلاصةَ خبرتها الصوفيّة المولعة: “لقد وجدتُ المحبّة، المحبّةجعلت نفسها مرئيّة!”. شكرًا.