إخوتي وأخواتي الأعزّاء،
أودّ اليوم أن أحدِّثكم عن قدّيسة أُخرى تحمل اسم كاترينا، بعد كاترينا من سيينا وكاترينا من بولونيا؛ سأتحدّث عن كاترينا من جنوى، المعروفة على الأخصّ بسبب رؤيتها حول المطهر. نُشر النصّ الذي يصف حياتها وفكرها في هذه المدينة الليغوريّة عام 1551؛ وهو ينقسم إلى ثلاثة أجزاء: سيرة حياتها، برهان المطهر ووصفه- المعروف باسم المجلّد- والحوار بين النفس والجسد [1]. وكان الكاتب النهائيّ هو مُعرِّف كاترينا، الكاهن كاتّانيو مارابوتّو.
أودّ اليوم أن أحدِّثكم عن قدّيسة أُخرى تحمل اسم كاترينا، بعد كاترينا من سيينا وكاترينا من بولونيا؛ سأتحدّث عن كاترينا من جنوى، المعروفة على الأخصّ بسبب رؤيتها حول المطهر. نُشر النصّ الذي يصف حياتها وفكرها في هذه المدينة الليغوريّة عام 1551؛ وهو ينقسم إلى ثلاثة أجزاء: سيرة حياتها، برهان المطهر ووصفه- المعروف باسم المجلّد- والحوار بين النفس والجسد [1]. وكان الكاتب النهائيّ هو مُعرِّف كاترينا، الكاهن كاتّانيو مارابوتّو.
وُلدت كاترينا في جنوى عام 1447؛ كانت الأخيرة من بين خمسة أبناء ويتيمة الأب، جاكومو فييسكي، مند طفولتها. قامت أمّها، فرانتشيسكا دي نيغرو، بتربيتهم تربية مسيحيّة صالحة، إذ أصبحت كبرى ابنتيها راهبة. وفي السادسة عشرة من عمرها، قُدِّمت كاترينا كَزوجة إلى جوليانو أدورنو، وهو رجل كان قد عاد إلى جنوى ليتزوّج بعد مغامراتٍ تجاريّة وعسكريّة مختلفة في الشرق الأوسط. لم تكن حياتها الزوجيّة سهلة، بسبب شخصيّة زوجها أيضًا، المُدمن على القمار. وكانت كاترينا أيضًا مدفوعة في البداية للقيام لنمط من الحياة الدنيويّة، لكنّها لم تعثر فيها على صفاء العيش. وبعد مضيّ عشر سنوات، كان يختلج قلبها شعورٌ عميق بالفراغ والمرارة.
بدأت الهداية في 20 آذار/مارس 1473، بفضل تجربة فريدة من نوعها. فبعد أن ذهبت إلى كنيسة القدّيس بينديكتس في دير سيّدة النِعَم للاعتراف وركعت أمام الكاهن، “تلقّت – كما كتبت هي بنفسها- جرحًا في قلبها، من محبّة الله الهائلة”، في رؤية شديدة الوضوح عن بؤسها وعيوبها، وفي الوقت نفسه، عن طيبة الله، حتّى كاد يُغمى عليها. تأثّرت في قلبها لمعرفة نفسها هذه، وللحياة الفارغة التي كانت تقودها، ولطيبة الله. من هذه التجربة نشأ القرار الذي وجّه كلّ حياتها، والذي أعربت عنه بهذه الكلمات: “لا دنيا بعد اليوم، لا خطايا بعد اليوم" (راجع Vita mirabile، 3). فهربت كاترينا، من دون أن تُنهي اعترافها. وبعد أن عادت إلى بيتها، دخلت إلى الغرفة الأكثر خِفيةً وبكت طويلا. في تلك اللحظة لُقِّنت داخليًّا على الصلاة وأدركت محبّة الله الشاسعة لها هي الخاطئة، تجربة روحيّة لم تستطع التعبير عنها بِالكلمات (راجع Vita mirabile، 4). وبِهذه المناسبة ظهر لها يسوع المتألّم، تحت ثقل الصليب، كما يُمثَّل أحيانًا كثيرة في صور القدّيسة وأيقوناتها. وبعد بضعة أيّام، عادت إلى الكاهن لتقوم أخيرًا باعتراف جيّد. بدأت هنا “حياة التنقية”، التي جعلتها تشعر لفترة طويلة بألم مستمر بسبب الخطايا التي ارتكبتها ودفعتها لتفرض على نفسها الكثير من التكفيرات والتضحيات كي تُظهر حبّها لله.
أخذت كاترينا تقترب، في هذا الدرب، أكثر فأكثر من الربّ، حتّى دخلت في ما يسمّى بِـ “الحياة الاتّحاديّة”، أي علاقة اتّحاد عميق بالله. وكتبت في "سيرة حياتها" أنّ روحها كانت تقودها وتُهذّبها داخليًّا محبّةُ الله العذبة فحسب، وكانت تعطيها كلّ ما تحتاج إليه. أسلمت كاترينا نفسها بشكلٍ تامّ بين يدَي الربّ حتّى إنّها عاشت، لحوالي 25 عامًا - كما تكتب هي - “من دون معونة أيّة خليقة، بل يُهذّبها ويحكمها الله وحده” (الحياة، 117 - 118)، تقتات خاصّةً بِالصلاة المتواصلة وبتناول القربان المقدّس كلّ يوم، وهذا شيء غير مألوف في زمنها. وبعد سنوات كثيرة فقط أعطاها الربّ كاهنًا يُعنى بِروحها.
كانت كاترينا متردِّدة دائمًا في البوح والتعبير عن تجربتها في الشركة الزُهديّة مع الله، خاصّةً بسبب التواضع العميق الذي شعرت به أمام نِعَم الربّ. وحدها إمكانيّة تمجيده وإفادة درب الآخرين الروحيّ دفعها إلى رواية ما كان يحدث لها منذ وقت الهداية، والتي تمثِّل خبرتها الأصليّة الأساسيّة. كان مكان ارتقائها إلى قمم التصوّف مستشفى بامّاتوني (Pammatone) ، وهو أكبر مركز استشفاء في جنوى، وكانت هي تديره وتُحيي نشاطاته. كانت كاترينا تعيش إذًا حياة نشطة كليًّا، رغم عمق حياتها الداخليّة. فتشكّلت حولها في بامّاتوني شيئًا فشيئًا مجموعة من الأتباع والتلاميذ والمُتعاونين، جذبتهم حياة إيمانها ومحبّتها. وانجذب زوجها جوليانو أدورنو نفسه، لدرجة أنّه ترك حياة الترف، وأصبح علمانيًّا فرنسيسكانيًّا وانتقل إلى المستشفى لتقديم المساعدة لزوجته. جهدت كاترينا في رعاية المرضى حتّى نهاية دربها الأرضيّ، في 15 أيلول/سبتمبر 1510. لم تكن هناك من هدايتها وحتّى وفاتها أحداث غير عاديّة، ولكن هناك عنصران يميّزان سائر حياتها: من جهة، الخبرة الصوفيّة، أي الاتّحاد العميق بالله، التي شعرت بها كاتّحاد زوجيّ، ومن جهة أُخرى، إعانة المرضى وتنظيم المستشفى وخدمة القريب، خاصّةً الأكثر احتياجًا والمُهملين. هذان القطبان – الله والقريب - ملئا بشكل كامل حياتها التي قضتها فعليًّا داخل جدران المستشفى.
أيّها الأصدقاء، علينا ألاّ ننسى أبدًا أنّه كلّما أحببنا الله أكثر وثابرنا على الصلاة، كلّما استطعنا أن نحبّ مَن يُحيط بنا، مَن هو قريب منّا، لأنّنا لسوف نقدر على رؤية وجه الربّ، الذي يحبّ دون حدود ودون تفرقة، في كلّ شخص. لا يخلق الزهد مسافة بيننا وبين الآخر، لا يخلق حياة مجرّدة، بل يُقرِّب من الآخر، لأنّنا به نرى ونعمل بعيني الله وقلبه.
يتركّز فكر كاترينا حول المطهر، إذ أنّها معروفة خاصّةً بهذا، في الجزئين الأخيرين من كتابها المذكور في البداية: "المجلّد" حول المطهر و"الحوار بين النفس والجسد". من المهمّ ملاحظة أن ليست لكاترينا أبدًا، في خبرتها الصوفيّة، رؤيا محدّدة حول المطهر أو النفوس التي تتطهّر فيه. ومع ذلك، فإنّه عنصرٌ أساسيّ في الكتابات المستوحاة من قدّيستنا ولطريقة وصفه ميزات خاصّة قياسًا بزمنها. تتعلّق الميزة الأولى الفريدة بِـ "مكان" تنقية النفوس. حيث كان يُصوَّر أساسًا في زمنها باستخدام صور متعلّقة بالمكان: كان يُعتقد بِمكان معيّن، فيه المطهر. ولكن مع كاترينا، لا يتمثّل المطهر كَمشهد في باطن الأرض: إنّه ليس نارًا خارجيّة بل داخليّة. هذا هو المطهر، نارٌ داخليّة. تتحدّث القدّيسة عن درب تنقية النفس نحو الاتّحاد الكامل بالله، بدءًا من تجربتها الخاصّة في الألم العميق للخطايا التي ارتكبتها، مُقارنةً بمحبّة الله اللامتناهية (راجع Vita mirabile، 171). لقد سمعنا عن زمن الهداية، حين شعرت كاترينا بشكلٍ فجائيّ بِطيبة الله، والمسافة اللامتناهية التي تفصل حياتها عن هذه الطيبة، والنار المُحرقة داخل نفسها. هذه هي النار التي تُنقّي، إنّها نار المطهر الداخليّة. هنا أيضًا نَجِد ميزةً فريدة مُقارنة بِفِكر زمنها. إذ لا يتمّ الانطلاق من الورائيّات للحديث عن عذابات المطهر - كما كان المعتاد في تلك الأزمان وربّما اليوم أيضًا - والإشارة بعدها إلى درب التنقية أو الهداية، بل تنطلق قدّيستنا من تجربتها الداخليّة في حياتها السائرة نحو الأبديّة. فالنفس - تقول كاترينا – تمثل أمام الله وهي لا تزال مرتبطة بالرغبات والألم الناجم عن الخطيئة، وهذا ما يجعل من المستحيل لها أن تتمتّع بِرؤية الله الطوباويّة. تؤكِّد كاترينا أنّ الله طاهر وقدّوس لدرجة أنّ النفس الملطّخة بالخطيئة لا تستطيع المثول في حضرة جلاله الإلهيّ (راجع Vita mirabile، 177). ونحن أيضًا نشعر، كم نحن بعيدون، كم نحن ممتلئون بأشياء كثيرة، لا يمكننا معها أن نرى الله. فالنفس على بيّنة من محبّة الله الشاسعة وعدالته الكاملة، وهي بالتالي تتألّم لأنّها لم تُجب بِشكلٍ صحيح وكامل على هذه المحبّة، فتُصبح محبّة الله نفسها شعلةً، وتُنقّيها المحبّة نفسها من بقايا الخطيئة.
يُمكننا أن نلمح لدى كاترينا حضور مصادر لاهوتيّة وتصوّفية كان من العادي الرجوع إليها في زمنها. نجد على وجه الخصوص صورةً نموذجيّة عن ديونيسيوس الأريوباغيّ، أي صورة الخيط الذهبيّ الذي يربط قلب الإنسان بالله ذاته. فعندما يطهّر الله الإنسان، يربطه بِخيط رفيع جدًّا من الذهب، هو محبّته، ويجذبه نحوه بِعاطفة قويّة لدرجة يبقى معها الإنسان كَمَن “تُخُطِّيَ وغُلبَ وهو بكليّته خارج نفسه”. هكذا تغمُر محبّة الله قلب الإنسان، التي تصبح مُرشد وجوده الوحيد، مُحرِّكها الوحيد (راجع Vita mirabile، 246). هذه الحالة من الارتقاء نحو الله والاستسلام لإرادته، التي أُعرِب عنها في صورة الخيط، تستخدمها كاترينا للتعبير عن عمل النور الإلهيّ في النفوس المطهريّة، نورٌ ينقّيها ويرفعها إلى روعة شعاعات الله المُشرقة (راجع Vita mirabile، 179).
أصدقائي الأعزّاء، يصل القدّيسون، في خبرتهم في الاتّحاد مع الله، إلى “معرفة” عميقة جدًّا للأسرار الإلهيّة، تتداخل فيها المحبّة والمعرفة، فيصبحون عونًا لرجال اللاهوت أنفسهم في جهودهم الرامية إلى دراسة الإيمان وفهمه، إلى فهم أسرار الإيمان، والتعمّق الحقيقيّ بالأسرار، على سبيل المثال حول ماهيّة المطهر.
تعلِّمنا القدّيسة كاترينا، من خلال حياتها، أنّه كلّما أحببنا الله ودخلنا بِعلاقة حميميّة معه في الصلاة، كلّما عرَّف عن ذاته وأضرم قلوبنا بِمحبّته. تذكِّرنا القدّيسة، وهي تكتب عن المطهر، بِحقيقة أساسيّة عن الإيمان تصبح دعوة لنا للصلاة من أجل الموتى ليصلوا إلى رؤية الله الطوباويّة مع شركة القدّيسين (راجع التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة، 1032). إنّ الخدمة المتواضعة والمُخلصة والكريمة، التي قدّمتها القدّيسة في مستشفى بامّاتوني، لمِثالٌ ساطع عن محبّة الجميع وتشجيع للنساء خاصّةً، اللواتي تُقدِّمنَ مساهمة أساسيّة للمجتمع والكنيسة بِعملهنَّ القيِّم، المُغتني بِإحساسهنَّ واهتمامهنَّ بالأكثر فقرًا وعوزًا. شكرًا.
[1] راجع
Libro de la Vita mirabile et dottrina santa, de la beata Caterinetta da Genoa. Nel quale si contiene una utile et catholica dimostratione et dechiaratione del purgatorio
[الحياة الرائعة والعقيدة المقدّسة، للطوباويّة كاترينيتّا الجنويّة. المحتوي على برهان كاثوليكيّ
مُفيد للمطهر ووصف له] جنوى 1551.
بدأت الهداية في 20 آذار/مارس 1473، بفضل تجربة فريدة من نوعها. فبعد أن ذهبت إلى كنيسة القدّيس بينديكتس في دير سيّدة النِعَم للاعتراف وركعت أمام الكاهن، “تلقّت – كما كتبت هي بنفسها- جرحًا في قلبها، من محبّة الله الهائلة”، في رؤية شديدة الوضوح عن بؤسها وعيوبها، وفي الوقت نفسه، عن طيبة الله، حتّى كاد يُغمى عليها. تأثّرت في قلبها لمعرفة نفسها هذه، وللحياة الفارغة التي كانت تقودها، ولطيبة الله. من هذه التجربة نشأ القرار الذي وجّه كلّ حياتها، والذي أعربت عنه بهذه الكلمات: “لا دنيا بعد اليوم، لا خطايا بعد اليوم" (راجع Vita mirabile، 3). فهربت كاترينا، من دون أن تُنهي اعترافها. وبعد أن عادت إلى بيتها، دخلت إلى الغرفة الأكثر خِفيةً وبكت طويلا. في تلك اللحظة لُقِّنت داخليًّا على الصلاة وأدركت محبّة الله الشاسعة لها هي الخاطئة، تجربة روحيّة لم تستطع التعبير عنها بِالكلمات (راجع Vita mirabile، 4). وبِهذه المناسبة ظهر لها يسوع المتألّم، تحت ثقل الصليب، كما يُمثَّل أحيانًا كثيرة في صور القدّيسة وأيقوناتها. وبعد بضعة أيّام، عادت إلى الكاهن لتقوم أخيرًا باعتراف جيّد. بدأت هنا “حياة التنقية”، التي جعلتها تشعر لفترة طويلة بألم مستمر بسبب الخطايا التي ارتكبتها ودفعتها لتفرض على نفسها الكثير من التكفيرات والتضحيات كي تُظهر حبّها لله.
أخذت كاترينا تقترب، في هذا الدرب، أكثر فأكثر من الربّ، حتّى دخلت في ما يسمّى بِـ “الحياة الاتّحاديّة”، أي علاقة اتّحاد عميق بالله. وكتبت في "سيرة حياتها" أنّ روحها كانت تقودها وتُهذّبها داخليًّا محبّةُ الله العذبة فحسب، وكانت تعطيها كلّ ما تحتاج إليه. أسلمت كاترينا نفسها بشكلٍ تامّ بين يدَي الربّ حتّى إنّها عاشت، لحوالي 25 عامًا - كما تكتب هي - “من دون معونة أيّة خليقة، بل يُهذّبها ويحكمها الله وحده” (الحياة، 117 - 118)، تقتات خاصّةً بِالصلاة المتواصلة وبتناول القربان المقدّس كلّ يوم، وهذا شيء غير مألوف في زمنها. وبعد سنوات كثيرة فقط أعطاها الربّ كاهنًا يُعنى بِروحها.
كانت كاترينا متردِّدة دائمًا في البوح والتعبير عن تجربتها في الشركة الزُهديّة مع الله، خاصّةً بسبب التواضع العميق الذي شعرت به أمام نِعَم الربّ. وحدها إمكانيّة تمجيده وإفادة درب الآخرين الروحيّ دفعها إلى رواية ما كان يحدث لها منذ وقت الهداية، والتي تمثِّل خبرتها الأصليّة الأساسيّة. كان مكان ارتقائها إلى قمم التصوّف مستشفى بامّاتوني (Pammatone) ، وهو أكبر مركز استشفاء في جنوى، وكانت هي تديره وتُحيي نشاطاته. كانت كاترينا تعيش إذًا حياة نشطة كليًّا، رغم عمق حياتها الداخليّة. فتشكّلت حولها في بامّاتوني شيئًا فشيئًا مجموعة من الأتباع والتلاميذ والمُتعاونين، جذبتهم حياة إيمانها ومحبّتها. وانجذب زوجها جوليانو أدورنو نفسه، لدرجة أنّه ترك حياة الترف، وأصبح علمانيًّا فرنسيسكانيًّا وانتقل إلى المستشفى لتقديم المساعدة لزوجته. جهدت كاترينا في رعاية المرضى حتّى نهاية دربها الأرضيّ، في 15 أيلول/سبتمبر 1510. لم تكن هناك من هدايتها وحتّى وفاتها أحداث غير عاديّة، ولكن هناك عنصران يميّزان سائر حياتها: من جهة، الخبرة الصوفيّة، أي الاتّحاد العميق بالله، التي شعرت بها كاتّحاد زوجيّ، ومن جهة أُخرى، إعانة المرضى وتنظيم المستشفى وخدمة القريب، خاصّةً الأكثر احتياجًا والمُهملين. هذان القطبان – الله والقريب - ملئا بشكل كامل حياتها التي قضتها فعليًّا داخل جدران المستشفى.
أيّها الأصدقاء، علينا ألاّ ننسى أبدًا أنّه كلّما أحببنا الله أكثر وثابرنا على الصلاة، كلّما استطعنا أن نحبّ مَن يُحيط بنا، مَن هو قريب منّا، لأنّنا لسوف نقدر على رؤية وجه الربّ، الذي يحبّ دون حدود ودون تفرقة، في كلّ شخص. لا يخلق الزهد مسافة بيننا وبين الآخر، لا يخلق حياة مجرّدة، بل يُقرِّب من الآخر، لأنّنا به نرى ونعمل بعيني الله وقلبه.
يتركّز فكر كاترينا حول المطهر، إذ أنّها معروفة خاصّةً بهذا، في الجزئين الأخيرين من كتابها المذكور في البداية: "المجلّد" حول المطهر و"الحوار بين النفس والجسد". من المهمّ ملاحظة أن ليست لكاترينا أبدًا، في خبرتها الصوفيّة، رؤيا محدّدة حول المطهر أو النفوس التي تتطهّر فيه. ومع ذلك، فإنّه عنصرٌ أساسيّ في الكتابات المستوحاة من قدّيستنا ولطريقة وصفه ميزات خاصّة قياسًا بزمنها. تتعلّق الميزة الأولى الفريدة بِـ "مكان" تنقية النفوس. حيث كان يُصوَّر أساسًا في زمنها باستخدام صور متعلّقة بالمكان: كان يُعتقد بِمكان معيّن، فيه المطهر. ولكن مع كاترينا، لا يتمثّل المطهر كَمشهد في باطن الأرض: إنّه ليس نارًا خارجيّة بل داخليّة. هذا هو المطهر، نارٌ داخليّة. تتحدّث القدّيسة عن درب تنقية النفس نحو الاتّحاد الكامل بالله، بدءًا من تجربتها الخاصّة في الألم العميق للخطايا التي ارتكبتها، مُقارنةً بمحبّة الله اللامتناهية (راجع Vita mirabile، 171). لقد سمعنا عن زمن الهداية، حين شعرت كاترينا بشكلٍ فجائيّ بِطيبة الله، والمسافة اللامتناهية التي تفصل حياتها عن هذه الطيبة، والنار المُحرقة داخل نفسها. هذه هي النار التي تُنقّي، إنّها نار المطهر الداخليّة. هنا أيضًا نَجِد ميزةً فريدة مُقارنة بِفِكر زمنها. إذ لا يتمّ الانطلاق من الورائيّات للحديث عن عذابات المطهر - كما كان المعتاد في تلك الأزمان وربّما اليوم أيضًا - والإشارة بعدها إلى درب التنقية أو الهداية، بل تنطلق قدّيستنا من تجربتها الداخليّة في حياتها السائرة نحو الأبديّة. فالنفس - تقول كاترينا – تمثل أمام الله وهي لا تزال مرتبطة بالرغبات والألم الناجم عن الخطيئة، وهذا ما يجعل من المستحيل لها أن تتمتّع بِرؤية الله الطوباويّة. تؤكِّد كاترينا أنّ الله طاهر وقدّوس لدرجة أنّ النفس الملطّخة بالخطيئة لا تستطيع المثول في حضرة جلاله الإلهيّ (راجع Vita mirabile، 177). ونحن أيضًا نشعر، كم نحن بعيدون، كم نحن ممتلئون بأشياء كثيرة، لا يمكننا معها أن نرى الله. فالنفس على بيّنة من محبّة الله الشاسعة وعدالته الكاملة، وهي بالتالي تتألّم لأنّها لم تُجب بِشكلٍ صحيح وكامل على هذه المحبّة، فتُصبح محبّة الله نفسها شعلةً، وتُنقّيها المحبّة نفسها من بقايا الخطيئة.
يُمكننا أن نلمح لدى كاترينا حضور مصادر لاهوتيّة وتصوّفية كان من العادي الرجوع إليها في زمنها. نجد على وجه الخصوص صورةً نموذجيّة عن ديونيسيوس الأريوباغيّ، أي صورة الخيط الذهبيّ الذي يربط قلب الإنسان بالله ذاته. فعندما يطهّر الله الإنسان، يربطه بِخيط رفيع جدًّا من الذهب، هو محبّته، ويجذبه نحوه بِعاطفة قويّة لدرجة يبقى معها الإنسان كَمَن “تُخُطِّيَ وغُلبَ وهو بكليّته خارج نفسه”. هكذا تغمُر محبّة الله قلب الإنسان، التي تصبح مُرشد وجوده الوحيد، مُحرِّكها الوحيد (راجع Vita mirabile، 246). هذه الحالة من الارتقاء نحو الله والاستسلام لإرادته، التي أُعرِب عنها في صورة الخيط، تستخدمها كاترينا للتعبير عن عمل النور الإلهيّ في النفوس المطهريّة، نورٌ ينقّيها ويرفعها إلى روعة شعاعات الله المُشرقة (راجع Vita mirabile، 179).
أصدقائي الأعزّاء، يصل القدّيسون، في خبرتهم في الاتّحاد مع الله، إلى “معرفة” عميقة جدًّا للأسرار الإلهيّة، تتداخل فيها المحبّة والمعرفة، فيصبحون عونًا لرجال اللاهوت أنفسهم في جهودهم الرامية إلى دراسة الإيمان وفهمه، إلى فهم أسرار الإيمان، والتعمّق الحقيقيّ بالأسرار، على سبيل المثال حول ماهيّة المطهر.
تعلِّمنا القدّيسة كاترينا، من خلال حياتها، أنّه كلّما أحببنا الله ودخلنا بِعلاقة حميميّة معه في الصلاة، كلّما عرَّف عن ذاته وأضرم قلوبنا بِمحبّته. تذكِّرنا القدّيسة، وهي تكتب عن المطهر، بِحقيقة أساسيّة عن الإيمان تصبح دعوة لنا للصلاة من أجل الموتى ليصلوا إلى رؤية الله الطوباويّة مع شركة القدّيسين (راجع التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة، 1032). إنّ الخدمة المتواضعة والمُخلصة والكريمة، التي قدّمتها القدّيسة في مستشفى بامّاتوني، لمِثالٌ ساطع عن محبّة الجميع وتشجيع للنساء خاصّةً، اللواتي تُقدِّمنَ مساهمة أساسيّة للمجتمع والكنيسة بِعملهنَّ القيِّم، المُغتني بِإحساسهنَّ واهتمامهنَّ بالأكثر فقرًا وعوزًا. شكرًا.
[1] راجع
Libro de la Vita mirabile et dottrina santa, de la beata Caterinetta da Genoa. Nel quale si contiene una utile et catholica dimostratione et dechiaratione del purgatorio
[الحياة الرائعة والعقيدة المقدّسة، للطوباويّة كاترينيتّا الجنويّة. المحتوي على برهان كاثوليكيّ
مُفيد للمطهر ووصف له] جنوى 1551.