إخوتي وأخواتي الأعزّاء،
في سياق التعاليم المسيحيّة التي أردتُ تخصيصها لآباء الكنيسة وشخصيّات كبيرة من لاهوتيّي العصور الوسطى ونسائه، استطعتُ التوقّف أيضًا عند حياة بعض القدّيسين والقدّيسات الذين تمّ إعلانهم ملافنة الكنيسة بسبب عقيدتهم البارزة. أودّ اليوم أن أبدأ سلسلة قصيرة من اللقاءات لاستكمال تقديم ملافنة الكنيسة. وأبدأ بِقدّيسة تمثِّل قمّة من قمم الروحانيّة المسيحيّة في كلّ العصور: القدّيسة تيريزا من أفيلا [تيريزا الطفل يسوع].
وُلدت تيريزا في أفيلا، في إسبانيا، عام 1515، تحت اسم تيريزا دي أهومادا. تذكر هي نفسها في سيرتها الذاتيّة بعض تفاصيل طفولتها: ولادتُها “لوالدَين فاضلين يتّقيان الله”، داخل عائلة كبيرة، مؤلّفة من تسعة إخوة وثلاث أخوات. كان لها أن تقرأ وهي لا تزال طفلة، أقلّ من 9 سنوات، حياةَ بعض الشهداء الذين أثاروا فيها الرغبة في الاستشهاد، حتّى أنّها دبّرت هروبًا قصيرًا من البيت كي تموت شهيدةً وتصعد إلى السماء (راجع الحياة 1، 4)؛ “أريد أن أرى الله”، تقول الصغيرة لِوالدَيها. وبعد بضع سنوات، سوف تتحدّث تيريزا عن قراءاتها في الطفولة، وقد أكّدت أنّها اكتشفت بها الحقيقة، واختصرتها بِمبدأَين أساسيَّين: من جهة، “حقيقة أنّ كلّ ما ينتمي إلى الدنيا، هو إلى زوال”، ومن جهة أخرى، حقيقة أنّ الله وحده هو “إلى الأبد، إلى الأبد، إلى الأبد”، وهو موضوع يتردّد في قصيدتها الشهيرة “لا يثيرنّ اضطرابك شيءٌ/ لا يُرعبنّك شيءٌ؛/ كلُّ شيء يزول. الله لا يتغيّر؛/ الصبر يحصل على كلّ شيء؛/ من يملك الله/ لا يعوزه شيء/ الله وحده يكفي!”. وإذ أصبحت يتيمة الأم في الثانية عشرة من عمرها، طلبت من السيّدة العذراء الكليّة القداسة أن تكون لها أُمًّا (راجع الحياة 1، 7).
في سياق التعاليم المسيحيّة التي أردتُ تخصيصها لآباء الكنيسة وشخصيّات كبيرة من لاهوتيّي العصور الوسطى ونسائه، استطعتُ التوقّف أيضًا عند حياة بعض القدّيسين والقدّيسات الذين تمّ إعلانهم ملافنة الكنيسة بسبب عقيدتهم البارزة. أودّ اليوم أن أبدأ سلسلة قصيرة من اللقاءات لاستكمال تقديم ملافنة الكنيسة. وأبدأ بِقدّيسة تمثِّل قمّة من قمم الروحانيّة المسيحيّة في كلّ العصور: القدّيسة تيريزا من أفيلا [تيريزا الطفل يسوع].
وُلدت تيريزا في أفيلا، في إسبانيا، عام 1515، تحت اسم تيريزا دي أهومادا. تذكر هي نفسها في سيرتها الذاتيّة بعض تفاصيل طفولتها: ولادتُها “لوالدَين فاضلين يتّقيان الله”، داخل عائلة كبيرة، مؤلّفة من تسعة إخوة وثلاث أخوات. كان لها أن تقرأ وهي لا تزال طفلة، أقلّ من 9 سنوات، حياةَ بعض الشهداء الذين أثاروا فيها الرغبة في الاستشهاد، حتّى أنّها دبّرت هروبًا قصيرًا من البيت كي تموت شهيدةً وتصعد إلى السماء (راجع الحياة 1، 4)؛ “أريد أن أرى الله”، تقول الصغيرة لِوالدَيها. وبعد بضع سنوات، سوف تتحدّث تيريزا عن قراءاتها في الطفولة، وقد أكّدت أنّها اكتشفت بها الحقيقة، واختصرتها بِمبدأَين أساسيَّين: من جهة، “حقيقة أنّ كلّ ما ينتمي إلى الدنيا، هو إلى زوال”، ومن جهة أخرى، حقيقة أنّ الله وحده هو “إلى الأبد، إلى الأبد، إلى الأبد”، وهو موضوع يتردّد في قصيدتها الشهيرة “لا يثيرنّ اضطرابك شيءٌ/ لا يُرعبنّك شيءٌ؛/ كلُّ شيء يزول. الله لا يتغيّر؛/ الصبر يحصل على كلّ شيء؛/ من يملك الله/ لا يعوزه شيء/ الله وحده يكفي!”. وإذ أصبحت يتيمة الأم في الثانية عشرة من عمرها، طلبت من السيّدة العذراء الكليّة القداسة أن تكون لها أُمًّا (راجع الحياة 1، 7).
إذا كانت قراءة الكتب الدنيويّة في فترة المراهقة قد حملتها إلى شرود الحياة الاجتماعيّة، فإنّ خبرتها كَتلميذة لراهبات سيّدة النِعَم الأغسطينيّات في أفيلا والانكباب على قراءة الكُتُب الروحيّة، وخاصّةً كتب الروحانيّة الفرنسيسكانيّة الكلاسيكيّة، قد علّمتها الاختلاء بالذات والصلاة. وفي سنّها العشرين، دخلت إلى دير التجسّد الكرمليّ، في أفيلا أيضًا؛ واتّخذت اسم تيريزا يسوع في حياتها الدينيّة. وبعد ثلاث سنوات، مرضت بشكلٍ خطير، حتّى أنّها بقيت لمدّة أربعة أيّام في حالة غيبوبة، ميتة ظاهريًّا ( راجع الحياة 5، 9). وحتّى في صراعها مع أمراضها، ترى القدّيسة نضالها ضدّ الضعف ومقاومتها نداء الله حيث تكتب: “كنت أرغب أن أعيش، لأنّني فهمت أنّني لم أكن أعيش. كنت أُقاتل ظلّ الموت، ولم يكن لديّ أحد لِيعطيني الحياة، وما كنت قادرة حتّى أنا على أخذها، ومَن كان يستطيع أن يعطيني إيّاها كان على حقّ بِعدم نجدتي، إذ إنّه وجّهني مرّات عديد صوبه، لكنّي تخلّيت عنه” (الحياة، 8، 2). وفي عام 1543، تفقد قرب أفراد الأسرة منها إذ تُوفّي والدها وهاجر جميع إخوتها، الواحد تلو الآخر، إلى أميركا. وفي زمن الصوم من عام 1554، وكانت في التاسع والثلاثيمن عمرها، وصلت تيريزا إلى ذروة صراعها مع نقاط ضعفها. فقد ترك الاكتشاف العَرَضيّ لِتمثال “المسيح المُثخن بالجراح” أثرًا عميقًا في حياتها (راجع حياة 9). وإذ وجدت القديسة في تلك الحقبة تناغمًا عميقًا مع القدّيس أغسطينوس في كتاب “الاعترافات” تصف هكذا يومها الحاسم في خبرتها الصوفيّة: “حدث أن... انتابني فجأةً شعور عن وجود الله، حتّى أنّه لم يكن يُمكنني أن أشكّ أنّه كان في داخلي أو أنّني كنت بكليّتي مُنغمسة فيه” (الحياة 10، 1).
بدأت القدّيسة عمليًّا، بالتوازي مع نضوج حياتها الداخليّة، بِتنمية مِثال إصلاح الرهبنة الكرمليّة، فقد أسَّست عام 1562 في أفيلا، وبدعم من أسقف المدينة، دون ألفارو دي ميندوسا، أوّل دير كرمليّ إصلاحيّ، وبعد فترة وجيزة تلقّت أيضًا موافقة الرئيس العامّ للرهبانيّة، جوفانّي باتّيستا روسّي. استمرّت في السنوات اللاحقة بِتأسيس أديرة كرمليّة جديدة، ما بلغ مجموعه سبعة عشر ديرًا. كان اللقاء مع القدّيس يوحنّا الصليب بالغ الأهميّة، الذي شكّلت معه عام 1568 في دورويلو، قرب أفيلا، دير الكرمليّات الحافيات الأوّل. وفي عام 1580 حصلت من روما على إنشاء إقليم مستقلّ لأديارها الكرمليّة الإصلاحيّة، وكانت نقطة انطلاق لرهبنة الكرمليّات الحافيات. أنهت تيريزا حياتها على الأرض حين كانت منهمكة تحديدًا بعمل التأسيس. ففي عام 1582، وبعد أن أسّست دير بورغوس الكرمليّ وفيما كانت تقوم بِرحلة العودة إلى أفيلا، تُوفّيت ليلة 15 تشرين الأوّل/أكتوبر في ألبا دي تورميس، وهي تكرِّر بتواضع عبارتَين: “في النهاية، أموت كابنة الكنيسة” و “الآن يا عريسي حان الوقت كي نرى بعضنا البعض”. حياةٌ قضتها داخل إسبانيا، لكنّها بذلتها من أجل الكنيسة جمعاء. وقد أعلن البابا بولس الخامس تطويبها عام 1614 فيما أعلن قداستها غريغوريوس الخامس عشر عام 1622، وأعلنها “ملفانة الكنيسة” خادم الله بولس السادس عام 1970.
لم تكن تيريزا يسوع تملك تنشئة أكاديميّة، لكنّها كانت دائمًا تستفيد من تعاليم رجال اللاهوت والأدباء والأساتذة الروحيّين. وتقيّدت دائمًا ككاتبة بما عاشته شخصيًّا ورأته في خبرة الآخرين (راجع مقدّمة “طريق الكمال”)، منطلقة من الخبرة. كانت لِتيريزا فرصة إقامة علاقات صداقة روحيّة مع الكثيرين من القدّيسين، لا سيّما مع القدّيس يوحنّا الصليب. وفي الوقت نفسه، كانت تقتات من قراءة آباء الكنيسة، كالقدّيس جيرولاموس والقدّيس غريغوريوس الكبير والقدّيس أغسطينوس. من بين أعمالها الرئيسيّة ينبغي قبل كلّ شيء ذكر سيرتها الذاتيّة، تحت عنوان “كتاب الحياة”، والذي تدعوه “كتاب مراحم الربّ”. وقد ألّفته في كرمل أفيلا عام 1565، يروي مسيرتها الذاتيّة والروحيّة، إذ كُتب، كما تقول تيريزا نفسها، لإخضاع روحها لِتمييز “أستاذ الروحانيّين” القدّيس جوفانّي الأفيليّ. والهدف منه تسليط الضوء على حضور الله الرحيم وعمله في حياتها: لذلك يورِد العمل في كثير من الأحيان حوار صلاة مع الربّ. إنّها قراءة تسحر، لأنّ القدّيسة لا تروي فحسب، بل تُظهر أنّها تعيش من جديد خبرة علاقتها مع الله العميقة. في عام 1566، كتبت تيريزا “درب الكمال”، الذي تُسمّيه هي “تنبيهات ونصائح تعطيها تيريزا يسوع لِراهباتها”. وهو موجّه إلى المبتدئات الاثنتي عشرة في كرمل القدّيس يوسف في أفيلا. تقترح تيريزا عليهنَّ برنامجًا مكثّفًا من الحياة التأمليّة لخدمة الكنيسة، التي تكمن في أُسسها الفضائل الإنجيليّة والصلاة. من بين الفقرات الأكثر قيمةً التعليق على "الأبانا"، نموذج الصلاة. أمّا العمل الصوفيّ الأكثر شهرةً للقدّيسة تيريزا فهو “القصر الداخلي”، الذي كتبتهُ عام 1577، في مرحلة النضج الكامل. وهو يشكّل قراءةً جديدة لدرب حياتها الروحيّة، وفي الوقت نفسه، تصنيفًا للسلوك المُمكن للحياة المسيحيّة نحو ملئها، نحو القداسة، تحت تأثير عمل الروح القدس. تستلهم تيريزا هيكليّة قصر ذي سبع غرف، كَصورة عن باطن الإنسان، وتقدّم في الوقت نفسه رمز دودة القزّ التي تولد من جديد كَفراشة، للتعبير عن الانتقال من الطبيعيّ إلى ما فوق الطبيعيّ. تستوحي القدّيسة من الكتاب المقدّس، وخصوصًا من "نشيد الأناشيد"، الرمز النهائيّ أي "رمز العروسَين"، الذي يسمح لها في الغرفة السابعة بِوصف ذروة الحياة المسيحيّة في جوانبها الأربعة: الثالوثيّ، الكريستولوجيّ، الأنثروبولوجيّ، والكنسيّ. وتخصّص تيريزا لنشاطها، كمؤسِّسة للكرمليّين المُصلحين، “كتاب التأسيسات”، الذي كتبته بين سنتَي 1573 و 1582، حيث تتحدّث عن حياة الجماعة الدينيّة الناشئة. وكما هو الحال في السيرة الذاتية، تهدف الرواية خاصّةً إلى تسليط الضوء على عمل الله في تأسيس الأديرة الجديدة.
ليس من السهل اختصار روحانيّة تيريزا العميقة والمفصّلة، ببضع كلمات. أودّ أن أذكر بعض النقاط الرئيسيّة. أوّلاً، تقترح القدّيسة تيريزا الفضائل الإنجيليّة كأساس لكلّ الحياة المسيحيّة والبشريّة: على الأخصّ، التجرّد عن الأموال، أو الفقر الإنجيليّ، وهذا يخصّنا جميعًا؛ ومحبّة بعضنا البعض كعنصر أساسيّ في الحياة الجماعيّة والاجتماعيّة؛ التواضع كمحبّة الحقيقة؛ العزم كثمرة الجرأة المسيحيّة؛ الرجاء اللاهوتيّ، الذي تصفه كَعطش للماء الحيّ. دون نسيان الفضائل البشريّة: اللطف والصدق والتواضع والرقّة والبهجة والثقافة. ثانيًا، تقترح القدّيسة تيريزا الانسجام العميق مع شخصيّات الكتاب المقدّس الكبيرة والاستماع الحيّ لِكلمة الله. على الأخصّ، تشعر بنفسها في تناغم مع عروس "نشيد الأناشيد" ومع بولس الرسول، بالإضافة إلى مسيح الآلام ويسوع الإفخارستيّ.
ثمّ تُشدِّد القدّيسة على أهميّة الصلاة؛ أن نُصلّي، تقول، “يعني أن نُعاشِر بِصداقة، لأنّنا نُعاشِر وجهًا لِوجه مَن نعلم أنّه يحبّنا” (الحياة 8، 5). تتطابق فكرة القدّيسة تيريزا مع الوصف الذي يُعطيه القدّيس توما الأكوينيّ حول المحبّة اللاهوتيّة، كَـ amicitia quaedam hominis ad Deum، أي نوع من صداقة للإنسان مع الله، الذي عرض أوّلاً صداقته للإنسان، إذ تأتي المبادرة من الله (راجع الخلاصة اللاهوتيّة الثاني والثالث:23، 1). الصلاة حياةٌ وهي تنمو تدريجيًّا جنبًا إلى جنب مع نمو الحياة المسيحيّة: تبدأ بالصلاة الصوتيّة، وتمرّ بالاستبطان من خلال التأمّل والاختلاء بالذات، حتّى تصل إلى اتّحاد المحبّة مع المسيح ومع الثالوث الأقدس. بالطبع، ليس هذا نموًّا يعني فيه الصعود إلى الدرجات العليا التخلّي عن النوع السابق من الصلاة، إنّما هو تعمّق تدريجيّ للعلاقة مع الله يغمر كلّ الحياة. هذا يمثّل لِتيريزا أكثر من تربيةٍ على الصلاة، إنّه “دخول في الأسرار” حقيقيّ، إذ تُعلِّم مَن يقرأ أعمالها كيفيّة الصلاة وهي نفسها تُصلّي معه؛ فهي في كثير من الأحيان تقطع روايتها أو عرضها لتنكبّ على الصلاة.
موضوعٌ آخر عزيز على القدّيسة هو مركزيّة بشريّة المسيح. فالحياة المسيحيّة بالنسبة لِتيريزا هي علاقة شخصيّة مع يسوع، تبلغ ذروتها في الاتّحاد معه بالنعمة والمحبّة والاقتداء. من هنا تبرز الأهميّة التي توليها لتأمّل الآلام والقربان المقدّس، كحضور المسيح، في الكنيسة، لِحياة كلّ مؤمن، وكصُلب الليتورجيا. تعيش القدّيسة تيريزا محبّة غير مشروطة للكنيسة: إنّها تُظهر “حسّا كنسيًّا” حيًّا أمام فصول الانقسام والصراع في كنيسة زمنها. فهي تقوم بإصلاح الرهبنة الكرمليّة بِقصد خدمة “الكنيسة الكاثوليكيّة الرومانيّة المقدّسة” والدفاع عنها بشكلٍ أفضل، وتبدي استعدادًا لِبذل حياتها من أجلها (راجع الحياة 33، 5).
هناك جانب رئيسيّ أخير في عقيدة تيريزا أودّ أن أشدِّد عليه، ألا وهو الكمال، كَطموح لكلّ الحياة المسيحيّة وهدف نهائيّ لها. للقدّيسة فكرةٌ واضحة جدًّا عن "ملء" المسيح، التي يعيشها المسيحيّ من جديد. ففي نهاية مسار "القصر الداخلي"، في "الغرفة" الأخيرة، تصف تيريزا هذا الملء، الذي يتحقّق في سكن الثالوث الأقدس فينا، بِالاتّحاد مع المسيح بواسطة سرّ بشريّته.
إخوتي وأخواتي الأعزّاء، إنّ القدّيسة تيريزا يسوع هي فعلاً معلّمة الحياة المسيحيّة لِمؤمني كلّ الأزمنة. ففي مجتمعنا، الذي يفتقر في كثير من الأحيان إلى القيم الروحيّة، تعلّمنا القدّيسة تيريزا أن نكون شهودًا لا يعرفون الكلل، لله ولِحضوره وعمله، وتعلّمنا أن نشعر حقًّا بِهذا العطش الموجود في أعماق قلوبنا، بهذه الرغبة في رؤية الله، في البحث عن الله، وفي التحاور معه وفي كوننا أصدقاءه وأولياءه. هذه هي الصداقة الضروريّة لنا جميعًا التي يجب أن نبحث عنها، يومًا بعد يوم، من جديد. فليدفعنا مِثال هذه القدّيسة، التأمليّة بِعمق والعاملة بِفعاليّة، نحن أيضًا لِتكريس الوقت الصحيح للصلاة كلّ يوم، ولِهذا الانفتاح على الله، ولِهذا الدرب للبحث عن الله، لرؤيته، والعثور على صداقته، وبالتالي الحياة الحقيقيّة؛ لأنّ الكثيرين منّا يمكنهم في الواقع القول: “أنا لا أعيش، أنا لا أعيش حقًّا، لأنّني لا أعيش جوهر حياتي”. لهذا فإنّ وقت الصلاة ليس وقتًا ضائعًا، إنّه وقت تنفتح فيه طريق الحياة، تنفتح الطريق لنتعلّم من الله المحبّة المتّقدة له ولِكنيسته والمحبّة الملموسة لإخوتنا. شكرًا.
بدأت القدّيسة عمليًّا، بالتوازي مع نضوج حياتها الداخليّة، بِتنمية مِثال إصلاح الرهبنة الكرمليّة، فقد أسَّست عام 1562 في أفيلا، وبدعم من أسقف المدينة، دون ألفارو دي ميندوسا، أوّل دير كرمليّ إصلاحيّ، وبعد فترة وجيزة تلقّت أيضًا موافقة الرئيس العامّ للرهبانيّة، جوفانّي باتّيستا روسّي. استمرّت في السنوات اللاحقة بِتأسيس أديرة كرمليّة جديدة، ما بلغ مجموعه سبعة عشر ديرًا. كان اللقاء مع القدّيس يوحنّا الصليب بالغ الأهميّة، الذي شكّلت معه عام 1568 في دورويلو، قرب أفيلا، دير الكرمليّات الحافيات الأوّل. وفي عام 1580 حصلت من روما على إنشاء إقليم مستقلّ لأديارها الكرمليّة الإصلاحيّة، وكانت نقطة انطلاق لرهبنة الكرمليّات الحافيات. أنهت تيريزا حياتها على الأرض حين كانت منهمكة تحديدًا بعمل التأسيس. ففي عام 1582، وبعد أن أسّست دير بورغوس الكرمليّ وفيما كانت تقوم بِرحلة العودة إلى أفيلا، تُوفّيت ليلة 15 تشرين الأوّل/أكتوبر في ألبا دي تورميس، وهي تكرِّر بتواضع عبارتَين: “في النهاية، أموت كابنة الكنيسة” و “الآن يا عريسي حان الوقت كي نرى بعضنا البعض”. حياةٌ قضتها داخل إسبانيا، لكنّها بذلتها من أجل الكنيسة جمعاء. وقد أعلن البابا بولس الخامس تطويبها عام 1614 فيما أعلن قداستها غريغوريوس الخامس عشر عام 1622، وأعلنها “ملفانة الكنيسة” خادم الله بولس السادس عام 1970.
لم تكن تيريزا يسوع تملك تنشئة أكاديميّة، لكنّها كانت دائمًا تستفيد من تعاليم رجال اللاهوت والأدباء والأساتذة الروحيّين. وتقيّدت دائمًا ككاتبة بما عاشته شخصيًّا ورأته في خبرة الآخرين (راجع مقدّمة “طريق الكمال”)، منطلقة من الخبرة. كانت لِتيريزا فرصة إقامة علاقات صداقة روحيّة مع الكثيرين من القدّيسين، لا سيّما مع القدّيس يوحنّا الصليب. وفي الوقت نفسه، كانت تقتات من قراءة آباء الكنيسة، كالقدّيس جيرولاموس والقدّيس غريغوريوس الكبير والقدّيس أغسطينوس. من بين أعمالها الرئيسيّة ينبغي قبل كلّ شيء ذكر سيرتها الذاتيّة، تحت عنوان “كتاب الحياة”، والذي تدعوه “كتاب مراحم الربّ”. وقد ألّفته في كرمل أفيلا عام 1565، يروي مسيرتها الذاتيّة والروحيّة، إذ كُتب، كما تقول تيريزا نفسها، لإخضاع روحها لِتمييز “أستاذ الروحانيّين” القدّيس جوفانّي الأفيليّ. والهدف منه تسليط الضوء على حضور الله الرحيم وعمله في حياتها: لذلك يورِد العمل في كثير من الأحيان حوار صلاة مع الربّ. إنّها قراءة تسحر، لأنّ القدّيسة لا تروي فحسب، بل تُظهر أنّها تعيش من جديد خبرة علاقتها مع الله العميقة. في عام 1566، كتبت تيريزا “درب الكمال”، الذي تُسمّيه هي “تنبيهات ونصائح تعطيها تيريزا يسوع لِراهباتها”. وهو موجّه إلى المبتدئات الاثنتي عشرة في كرمل القدّيس يوسف في أفيلا. تقترح تيريزا عليهنَّ برنامجًا مكثّفًا من الحياة التأمليّة لخدمة الكنيسة، التي تكمن في أُسسها الفضائل الإنجيليّة والصلاة. من بين الفقرات الأكثر قيمةً التعليق على "الأبانا"، نموذج الصلاة. أمّا العمل الصوفيّ الأكثر شهرةً للقدّيسة تيريزا فهو “القصر الداخلي”، الذي كتبتهُ عام 1577، في مرحلة النضج الكامل. وهو يشكّل قراءةً جديدة لدرب حياتها الروحيّة، وفي الوقت نفسه، تصنيفًا للسلوك المُمكن للحياة المسيحيّة نحو ملئها، نحو القداسة، تحت تأثير عمل الروح القدس. تستلهم تيريزا هيكليّة قصر ذي سبع غرف، كَصورة عن باطن الإنسان، وتقدّم في الوقت نفسه رمز دودة القزّ التي تولد من جديد كَفراشة، للتعبير عن الانتقال من الطبيعيّ إلى ما فوق الطبيعيّ. تستوحي القدّيسة من الكتاب المقدّس، وخصوصًا من "نشيد الأناشيد"، الرمز النهائيّ أي "رمز العروسَين"، الذي يسمح لها في الغرفة السابعة بِوصف ذروة الحياة المسيحيّة في جوانبها الأربعة: الثالوثيّ، الكريستولوجيّ، الأنثروبولوجيّ، والكنسيّ. وتخصّص تيريزا لنشاطها، كمؤسِّسة للكرمليّين المُصلحين، “كتاب التأسيسات”، الذي كتبته بين سنتَي 1573 و 1582، حيث تتحدّث عن حياة الجماعة الدينيّة الناشئة. وكما هو الحال في السيرة الذاتية، تهدف الرواية خاصّةً إلى تسليط الضوء على عمل الله في تأسيس الأديرة الجديدة.
ليس من السهل اختصار روحانيّة تيريزا العميقة والمفصّلة، ببضع كلمات. أودّ أن أذكر بعض النقاط الرئيسيّة. أوّلاً، تقترح القدّيسة تيريزا الفضائل الإنجيليّة كأساس لكلّ الحياة المسيحيّة والبشريّة: على الأخصّ، التجرّد عن الأموال، أو الفقر الإنجيليّ، وهذا يخصّنا جميعًا؛ ومحبّة بعضنا البعض كعنصر أساسيّ في الحياة الجماعيّة والاجتماعيّة؛ التواضع كمحبّة الحقيقة؛ العزم كثمرة الجرأة المسيحيّة؛ الرجاء اللاهوتيّ، الذي تصفه كَعطش للماء الحيّ. دون نسيان الفضائل البشريّة: اللطف والصدق والتواضع والرقّة والبهجة والثقافة. ثانيًا، تقترح القدّيسة تيريزا الانسجام العميق مع شخصيّات الكتاب المقدّس الكبيرة والاستماع الحيّ لِكلمة الله. على الأخصّ، تشعر بنفسها في تناغم مع عروس "نشيد الأناشيد" ومع بولس الرسول، بالإضافة إلى مسيح الآلام ويسوع الإفخارستيّ.
ثمّ تُشدِّد القدّيسة على أهميّة الصلاة؛ أن نُصلّي، تقول، “يعني أن نُعاشِر بِصداقة، لأنّنا نُعاشِر وجهًا لِوجه مَن نعلم أنّه يحبّنا” (الحياة 8، 5). تتطابق فكرة القدّيسة تيريزا مع الوصف الذي يُعطيه القدّيس توما الأكوينيّ حول المحبّة اللاهوتيّة، كَـ amicitia quaedam hominis ad Deum، أي نوع من صداقة للإنسان مع الله، الذي عرض أوّلاً صداقته للإنسان، إذ تأتي المبادرة من الله (راجع الخلاصة اللاهوتيّة الثاني والثالث:23، 1). الصلاة حياةٌ وهي تنمو تدريجيًّا جنبًا إلى جنب مع نمو الحياة المسيحيّة: تبدأ بالصلاة الصوتيّة، وتمرّ بالاستبطان من خلال التأمّل والاختلاء بالذات، حتّى تصل إلى اتّحاد المحبّة مع المسيح ومع الثالوث الأقدس. بالطبع، ليس هذا نموًّا يعني فيه الصعود إلى الدرجات العليا التخلّي عن النوع السابق من الصلاة، إنّما هو تعمّق تدريجيّ للعلاقة مع الله يغمر كلّ الحياة. هذا يمثّل لِتيريزا أكثر من تربيةٍ على الصلاة، إنّه “دخول في الأسرار” حقيقيّ، إذ تُعلِّم مَن يقرأ أعمالها كيفيّة الصلاة وهي نفسها تُصلّي معه؛ فهي في كثير من الأحيان تقطع روايتها أو عرضها لتنكبّ على الصلاة.
موضوعٌ آخر عزيز على القدّيسة هو مركزيّة بشريّة المسيح. فالحياة المسيحيّة بالنسبة لِتيريزا هي علاقة شخصيّة مع يسوع، تبلغ ذروتها في الاتّحاد معه بالنعمة والمحبّة والاقتداء. من هنا تبرز الأهميّة التي توليها لتأمّل الآلام والقربان المقدّس، كحضور المسيح، في الكنيسة، لِحياة كلّ مؤمن، وكصُلب الليتورجيا. تعيش القدّيسة تيريزا محبّة غير مشروطة للكنيسة: إنّها تُظهر “حسّا كنسيًّا” حيًّا أمام فصول الانقسام والصراع في كنيسة زمنها. فهي تقوم بإصلاح الرهبنة الكرمليّة بِقصد خدمة “الكنيسة الكاثوليكيّة الرومانيّة المقدّسة” والدفاع عنها بشكلٍ أفضل، وتبدي استعدادًا لِبذل حياتها من أجلها (راجع الحياة 33، 5).
هناك جانب رئيسيّ أخير في عقيدة تيريزا أودّ أن أشدِّد عليه، ألا وهو الكمال، كَطموح لكلّ الحياة المسيحيّة وهدف نهائيّ لها. للقدّيسة فكرةٌ واضحة جدًّا عن "ملء" المسيح، التي يعيشها المسيحيّ من جديد. ففي نهاية مسار "القصر الداخلي"، في "الغرفة" الأخيرة، تصف تيريزا هذا الملء، الذي يتحقّق في سكن الثالوث الأقدس فينا، بِالاتّحاد مع المسيح بواسطة سرّ بشريّته.
إخوتي وأخواتي الأعزّاء، إنّ القدّيسة تيريزا يسوع هي فعلاً معلّمة الحياة المسيحيّة لِمؤمني كلّ الأزمنة. ففي مجتمعنا، الذي يفتقر في كثير من الأحيان إلى القيم الروحيّة، تعلّمنا القدّيسة تيريزا أن نكون شهودًا لا يعرفون الكلل، لله ولِحضوره وعمله، وتعلّمنا أن نشعر حقًّا بِهذا العطش الموجود في أعماق قلوبنا، بهذه الرغبة في رؤية الله، في البحث عن الله، وفي التحاور معه وفي كوننا أصدقاءه وأولياءه. هذه هي الصداقة الضروريّة لنا جميعًا التي يجب أن نبحث عنها، يومًا بعد يوم، من جديد. فليدفعنا مِثال هذه القدّيسة، التأمليّة بِعمق والعاملة بِفعاليّة، نحن أيضًا لِتكريس الوقت الصحيح للصلاة كلّ يوم، ولِهذا الانفتاح على الله، ولِهذا الدرب للبحث عن الله، لرؤيته، والعثور على صداقته، وبالتالي الحياة الحقيقيّة؛ لأنّ الكثيرين منّا يمكنهم في الواقع القول: “أنا لا أعيش، أنا لا أعيش حقًّا، لأنّني لا أعيش جوهر حياتي”. لهذا فإنّ وقت الصلاة ليس وقتًا ضائعًا، إنّه وقت تنفتح فيه طريق الحياة، تنفتح الطريق لنتعلّم من الله المحبّة المتّقدة له ولِكنيسته والمحبّة الملموسة لإخوتنا. شكرًا.