9 جديد: هكذا يصف بعض المراقبين، لا سيّما في صفوف الصحافيّين الذين عاينوا المظاهرات في ساحة التحرير، الحراك الذي أدّى إلى هروب بن علي في تونس واستقالة مبارك في مصر، والذي يضرب الآن ليبيا بقوّة. ماذا يحدث في الشرق الأوسط؟ هل للمقارنة مع أحداث عام 1989 معنى أم إنّها مبالغة صحافيّة؟ إلى أين ستصل موجة الاحتجاجات الطويلة؟ ولماذا لم يتوقّعها أحد أو قليلون فقط؟ هذه ثلّة من الأسئلة التي تظهر بإلحاح. لقد شدّد لويجي جنيناتسي وريكّاردو رادايللي في صحيفة أفّينيري على المظاهر غير المسبوقة (لا تنصح بالمقارنات)، والمجهولة (تدعو إلى الحذر) تُبرّر تلك التساؤلات. من الطبيعيّ أن تبقى غالبيّتها من دون جواب، فالمسارات التاريخيّة تترافق وحريّة الأفراد، وهي بالتالي غير قابلة للاستنتاج مسبقًا. مع ذلك، تُمكن الإشارة منذ الآن إلى بعض عناصر صالحة للتأمّل.
العنصر الأوّل هو عودة كلمة “ثورة”. فالصحف التونسيّة والمصريّة لا تتكلّم فقط عن انتفاضة، بل أيضًا عن “ثورة” وعلنًا. ولفهم أهميّة هذا الاختيار اللغوي، علينا أن نتذكّر أنّ الثورة في مصر أو تونس كانت تُشبَّه حتّى الآن بما حدث في الخمسينات والتي انتهت بِطرد القوى الاستعماريّة المباشرة (الفرنسيّة) أو غير المباشرة (الملك فاروق والإنكليز). لكنّ الثورة الجديدة توجّهت إلى الداخل بهدف إسقاط النظام الحالي. كما كتبت مليكة الزغل في تعليق فوريّ لها على الأحداث التونسيّة في نشرة الواحة الإخباريّة، “نحن الآن ما وراء قوميّة كانت تعرِّف عن نفسها بمواجهة الآخر (المُستعمِر والغرب) أو من خلال إيديولوجيّات معيّنة”. فالماضي الاستعماريّ يبدو موضوعًا تجاوز أخيرًا، حتّى على المستوى التصوُّري. ولا يتعلّق الأمر هنا أيضًا بِقيام ثورة إسلاميّة محضة كالتي عرفتها إيران عام 1979. فعلى الرغم من وجود ملموس للمكوّن الإسلاميّ، تسود في الوقت الراهن بالأحرى الإشارة إلى القِيَم العالميّة مثل الثلاثيّة “عمل، حرّيّة، كرامة وطنيّة” في تونس. أمّا في مصر فالموضوع الرئيسيّ هو مكافحة الفساد، مع اعتقال العديد من الوزراء ورجال الأعمال والشخصيّات البارزة. أهذا هو معنى “الثورة” بعد انهيار الايديولوجيّات؟
في الواقع هناك إيديولوجيا، ولا سيّما في مصر، وبنسبة أقلّ في تونس. ألا وهي الإسلام السياسيّ. والسؤال الذي يُركّز عليه محلّلون عديدون انتباههم حتّى الآن هو إلى أيّ مدى ستُحافظ الحركات الإسلاميّة، وفي مقدّمها جماعة الإخوان المسلمين، فعليًّا على الرؤية النظريّة التي يقدِّم وفقها الإسلام نموذجًا سياسيًّا يُمكن تطبيقه فورًا، بإمكانه حلّ جميع المشاكل، وإلى أيّ مدى قد تحوّلت هذه الحركات نحو مواقف تعترف، وهي تحدّ من مُغريات الهيمنة، بِدرجة من التواسطيّة في العمل السياسي بالنسبة إلى المبادئ الدينيّة الموحية. فـ“الإسلام هو الحلّ” ما زال شعار الإخوان المسلمين الشهير، ولكن كيف يُطبَّق اليوم من الناحية العمليّة؟
هذا السؤال مهمّ جدًّا، لكنّه ربّما - وهذه هي الملاحظة الثالثة - ليس الأهم. وهو بالأحرى ما إذا كانت الأولويّة بالنسبة للمتظاهرين الشبّان في الواقع إنشاء دولة إسلاميّة. فقد وجب على شيخ الأزهر منذ بضعة أيّام التدخّل لِتحذير لجنة صياغة الدستور من فرضيّة تعديل المادّة 2 التي تنصّ على أنّ الإسلام هو دين الدولة وتُعلن أنّ الشريعة هي المصدر الرئيسيّ للتشريع. إنّ موقف الشيخ هذا ليعني الكثير. لكنّ الأمر الأكثر إثارة للاهتمام هو التعليقات الـ 322 على الخبر التي صدرت على موقع صحيفة الأهرام الإلكترونيّ. هناك من يؤيِّد الشيخ تأييدًا كاملاً ويُعلن أنّ الثورة هي كلّها مؤامرة من المسيحيّين (الذين هم وراء مذبحة الإسكندريّة، من وجهة نظرهم)، وهناك مَن يدعو المصريّين بهدوء ألاّ يكونوا “ملكيّين أكثر من الملك” مُلاحظين أنّ العديد من البلدان الأوروبيّة تعترف في الدستور بِدين للدولة؛ في حين أنّ آخرين يعتقدون أنّ الحفاظ على المادّة 2 هو في مصلحة الأقباط قبل كلّ شيء، “لأنّ الشريعة الإسلاميّة تحميهم”. لكنّ نصف الآراء تقريبًا كانت سلبيّة. من يكتب هم مسيحيّون (تُمكن معرفة ذلك من خلال الأسماء)، ولكن أيضًا “مصريّون” (من دون تحديد طائفيّ)، ومسلمون كثيرون. وهم يُعلنون أنّ “الدين لله ومصر للجميع” أو يضعون حدًّا لموقف السلطات الدينيّة بِأسلوب قاطع “لقد انتهى زمن التدخّل”. وآخرون يطالبون بِدولة مدنيّة، وهي كلمة تُشير في العالم العربيّ إلى دولة علمانيّة غير مُعادية للدين. ويُحذِّر كثيرون من إنّ السلطات “تحاول أن تلعب اللعبة القديمة مرّة أخرى”، بِالتفريق بين المسيحيّين والمسلمين. وهناك أيضا مَن يتساءل: إذا كانت مصر يجب أن تظلّ دولة إسلاميّة، فلمَ الاحتجاج ضدّ الدولة اليهوديّة المجاورة؟ حتّى ولو وضعنا الأمور في نصابها معتبرين أنّ جماهير الفقراء الهائلة التي تعيش في مصر غير ممثَّلة في تعليقات المنتديات هذه كونها لا تملك وسيلة للتواصل على الإنترنت، يبقى الانطباع أنّ النقاش مفتوح على مصراعيه وغير محسوم البتّة في نتائجه.
وأخيرًا، المسألة الليبيّة. فعلى الرغم من بعض عناصر التشابه (دور الشباب في الاحتجاج، والمطالبة بمزيد من الحرّيّة، وتردّد صدى وسائل الإعلام الجديدة)، فإنّ الوضع يختلف كثيرًا عنه في مصر وتونس، أقلّه من ناحية الرخاء النسبيّ الذي تتباهى به ليبيا بين جيرانها بفضل عائدات النفط، على الرغم من سوء إدارة عشيرة القذّافي.
وكما هو واضح الآن، هناك حرب أهليّة جارية والعامل الحاسم فيها هو توجّهات القبائل، الجسم الوسيط الوحيد الحقيقيّ للبلاد، بعد أن قُمع المجتمع المدنيّ وجميع أشكال المعارضة بوحشيّة لسنوات في تبجيل شخصيّة القذّافي و “أحداسه” السياسيّة الوهميّة. فقبل وقتٍ ليس ببعيد، دعت ليبيا لأمم المتّحدة لتقطيع أوصال سويسرا بين ايطاليا وفرنسا والمانيا. أحداث كهذه تعطينا فكرة عن المسافة التي تفصل هذا البلد عن جيرانه في شمال افريقيا. وتدعونا لذلك إلى قدر كبير من الحذر في تطبيق التفسيرات نفسها الصالحة في مصر وتونس.
* نشرت صحيفة أفّينيري نسخة مختصرة عن هذا المقال في 19 فبراير/شباط، ص. 2
في الواقع هناك إيديولوجيا، ولا سيّما في مصر، وبنسبة أقلّ في تونس. ألا وهي الإسلام السياسيّ. والسؤال الذي يُركّز عليه محلّلون عديدون انتباههم حتّى الآن هو إلى أيّ مدى ستُحافظ الحركات الإسلاميّة، وفي مقدّمها جماعة الإخوان المسلمين، فعليًّا على الرؤية النظريّة التي يقدِّم وفقها الإسلام نموذجًا سياسيًّا يُمكن تطبيقه فورًا، بإمكانه حلّ جميع المشاكل، وإلى أيّ مدى قد تحوّلت هذه الحركات نحو مواقف تعترف، وهي تحدّ من مُغريات الهيمنة، بِدرجة من التواسطيّة في العمل السياسي بالنسبة إلى المبادئ الدينيّة الموحية. فـ“الإسلام هو الحلّ” ما زال شعار الإخوان المسلمين الشهير، ولكن كيف يُطبَّق اليوم من الناحية العمليّة؟
هذا السؤال مهمّ جدًّا، لكنّه ربّما - وهذه هي الملاحظة الثالثة - ليس الأهم. وهو بالأحرى ما إذا كانت الأولويّة بالنسبة للمتظاهرين الشبّان في الواقع إنشاء دولة إسلاميّة. فقد وجب على شيخ الأزهر منذ بضعة أيّام التدخّل لِتحذير لجنة صياغة الدستور من فرضيّة تعديل المادّة 2 التي تنصّ على أنّ الإسلام هو دين الدولة وتُعلن أنّ الشريعة هي المصدر الرئيسيّ للتشريع. إنّ موقف الشيخ هذا ليعني الكثير. لكنّ الأمر الأكثر إثارة للاهتمام هو التعليقات الـ 322 على الخبر التي صدرت على موقع صحيفة الأهرام الإلكترونيّ. هناك من يؤيِّد الشيخ تأييدًا كاملاً ويُعلن أنّ الثورة هي كلّها مؤامرة من المسيحيّين (الذين هم وراء مذبحة الإسكندريّة، من وجهة نظرهم)، وهناك مَن يدعو المصريّين بهدوء ألاّ يكونوا “ملكيّين أكثر من الملك” مُلاحظين أنّ العديد من البلدان الأوروبيّة تعترف في الدستور بِدين للدولة؛ في حين أنّ آخرين يعتقدون أنّ الحفاظ على المادّة 2 هو في مصلحة الأقباط قبل كلّ شيء، “لأنّ الشريعة الإسلاميّة تحميهم”. لكنّ نصف الآراء تقريبًا كانت سلبيّة. من يكتب هم مسيحيّون (تُمكن معرفة ذلك من خلال الأسماء)، ولكن أيضًا “مصريّون” (من دون تحديد طائفيّ)، ومسلمون كثيرون. وهم يُعلنون أنّ “الدين لله ومصر للجميع” أو يضعون حدًّا لموقف السلطات الدينيّة بِأسلوب قاطع “لقد انتهى زمن التدخّل”. وآخرون يطالبون بِدولة مدنيّة، وهي كلمة تُشير في العالم العربيّ إلى دولة علمانيّة غير مُعادية للدين. ويُحذِّر كثيرون من إنّ السلطات “تحاول أن تلعب اللعبة القديمة مرّة أخرى”، بِالتفريق بين المسيحيّين والمسلمين. وهناك أيضا مَن يتساءل: إذا كانت مصر يجب أن تظلّ دولة إسلاميّة، فلمَ الاحتجاج ضدّ الدولة اليهوديّة المجاورة؟ حتّى ولو وضعنا الأمور في نصابها معتبرين أنّ جماهير الفقراء الهائلة التي تعيش في مصر غير ممثَّلة في تعليقات المنتديات هذه كونها لا تملك وسيلة للتواصل على الإنترنت، يبقى الانطباع أنّ النقاش مفتوح على مصراعيه وغير محسوم البتّة في نتائجه.
وأخيرًا، المسألة الليبيّة. فعلى الرغم من بعض عناصر التشابه (دور الشباب في الاحتجاج، والمطالبة بمزيد من الحرّيّة، وتردّد صدى وسائل الإعلام الجديدة)، فإنّ الوضع يختلف كثيرًا عنه في مصر وتونس، أقلّه من ناحية الرخاء النسبيّ الذي تتباهى به ليبيا بين جيرانها بفضل عائدات النفط، على الرغم من سوء إدارة عشيرة القذّافي.
وكما هو واضح الآن، هناك حرب أهليّة جارية والعامل الحاسم فيها هو توجّهات القبائل، الجسم الوسيط الوحيد الحقيقيّ للبلاد، بعد أن قُمع المجتمع المدنيّ وجميع أشكال المعارضة بوحشيّة لسنوات في تبجيل شخصيّة القذّافي و “أحداسه” السياسيّة الوهميّة. فقبل وقتٍ ليس ببعيد، دعت ليبيا لأمم المتّحدة لتقطيع أوصال سويسرا بين ايطاليا وفرنسا والمانيا. أحداث كهذه تعطينا فكرة عن المسافة التي تفصل هذا البلد عن جيرانه في شمال افريقيا. وتدعونا لذلك إلى قدر كبير من الحذر في تطبيق التفسيرات نفسها الصالحة في مصر وتونس.
* نشرت صحيفة أفّينيري نسخة مختصرة عن هذا المقال في 19 فبراير/شباط، ص. 2